إعطاء وزن لليرة... بإنهاء السياسات الليبرالية ثلاثة محاور: الغذاء- الصناعة – إزاحة الدولار

إعطاء وزن لليرة... بإنهاء السياسات الليبرالية ثلاثة محاور: الغذاء- الصناعة – إزاحة الدولار

انتهت (العملية الأمنية لمواجهة المضاربة) التي لم نر منها إلاّ صوراً فايسبوكية لدولارات مكدسة، وما بعد هذه الإجراءات انخفض سعر السوق المتداول بنسبة 30% وارتفع سعر المركزي بنسبة 80% تقريباً، ومع ذلك لم يلتقيا حتى الآن... والأهم: استمرت مجمل الأسعار، ومنها: الأغذية بالصعود لترتفع خلال أسبوعين بنسبة فاقت 38%، وكل هذا ولم يكن قانون قيصر قد دخل حيّز التطبيق بعد! 

تدهور الليرة هو مفصل سياسي هام ليس فقط في مسار الكارثة الإنسانية السورية بل للمصير السياسي للبلاد، فهو لا يهدد فقط بـ (سكتة قلبية) لما تبقى من الاقتصاد السوري، بل يعتبر طريقاً للتجويع ومنها للفوضى، وأيضاً أداة أساسية للتقسيم.

السؤال الذي ينبغي طرحه: ما الذي يُبقي الليرة هشّة أمام تغيرات الدولار؟ وكيف يمكن زيادة استقرار الأسعار المحلية بأدوات اقتصادية- سياسية فعّالة، وليس بمنطق (الإطفائي) الذي يتعامل مع النتائج، ولا يبحث عن المبعث الفعلي للحريق؟

الليرة تفقد وزنها وتتبع للدولار

ما الذي يعنيه انهيار الليرة اقتصادياً؟ تخسر العملة من سعرها مثلها مثل أية سلعة أخرى... عندما يكثر المعروض منها ويقل الطلب. فكتلة الليرات كبيرة ومتراكمة في السوق السورية، بينما الطلب على الليرة قليل.
أما لماذا الطلب قليل؟! فالأسباب عديدة ومعقدة، ولكن بالعمق يمكن القول: إن الليرة فقدت فعالية القيام بالوظائف الأساسية للعملة: التسعير- الاستثمار- التداول. وفي اللحظة الراهنة، فإن السبب الحاسم في ذلك، هو أن القوى الاقتصادية والمالية الكبرى التي تمتلك أغلب الموارد تقوم بعملياتها الاستثمارية بالدولار، وطابع النشاط الأساسي لهؤلاء هو الاستيراد والتهريب والمضاربة، والليرة بالنسبة لهم ليست أكثر من وسيط مرحلي يسعون مباشرة للتخلص منه وتبديله بالدولار. فمليار ليرة يومياً هي تقديرات حجم الربح الذي يتم تحويله يومياً من ليرة إلى دولار، وهي نسبة 5% تقريباً من الناتج ولكنها قادرة على التأثير على مسار العملة، كما أن هذه الكتلة ووزنها يزدادان مع التوقف الاقتصادي.


تدهور الليرة هو نتاج خفتها وقابليتها للعوم والتقلب مع موجات الطلب والعرض على العملات الأقوى، مثل: الدولار بطبيعة الحال. ومنع انهيارها يكون بإعطائها وزناً وثقلاً، وذلك بالعموم عبر توسيع عمليات إنتاج البضائع والخدمات محلياً، لتصبح كتلة الليرة الموجودة، تقابلها كتلة سلع ونشاط اقتصادي داخلي بنسب متوازنة.
وإن كان هذا بالعموم هو الاتجاه الضروري الذي لا بد منه، فإنه يمكن تحديد آليات وإجراءات أسرع وأكثر حسماً ترفع قيمة الليرة وتثبتها وتدفعها نحو الصعود.

تثقيل الليرة بربط البضائع الأساسية بها

إن إعطاء الليرة وزناً ومنعها من التعويم، يكون عبر ربط مجموعة من السلع الأساسية والمؤثرة في مستوى الأسعار، وفي مستوى المعيشة بالليرة، ليس فقط عبر فرض سعر رسمي من جهاز الدولة... بل الأهم: ربط كل عملية إنتاج وتداول واستهلاك هذه السلع بالعملة المحلية، أو عزلها عن الدولار على الأقل، ودون هذا لا جدوى جدية من التسعير الرسمي.
بمعنى آخر، يجب أن تكون مكونات سلة الاستهلاك الأساسية (غذاء ودواء على الأقل) والسلع الاستراتيجية المحدّدة لمستوى الأسعار، مثل: (الطاقة، والنقل، ومستلزمات صناعية وزراعية أساسية) جميعها معزولة عن الدولار، أو على الأقل عن تقلبات الطلب والعرض عليه. وبالمقابل يتم إنتاجها وتداولها واستهلاكها بالليرة وعبر منظومات محلية غير مربوطة بالخارج أو معزولة عن تأثيره.
وفي الحالة السورية الحالية، فإن سلة الغذاء الأساسية مربوطة بالمستوردات بنسبة تفوق 50%، والأدوية وصناعتها دخلت في أزمة أيضاً بسبب ارتباطها بالدولار وعدم قدرة تسعيرها المحلي على مواكبة التكلفة، كذلك فإن منتجات أساسية، مثل: الأسمدة، والحديد والألمنيوم، والخيوط والغزول القطنية، والبلاستيك وغيرها جميعها ترتبط بالدولار، كما أن منتجات الطاقة أصبحت مُستوردة ومُسعّرة بأسعار تفوق الأسعار الدولية، هذا عدا عن حركة التهريب للخارج، التي تجعل أسعار المنتجات المحلية مسعّرة بالأسعار الإقليمية، ومحسوب سعرها على المستهلك السوري بمعادلته مع سعر التهريب بالدولار، كما في حالة لحوم الأغنام.
فكيف يمكن أن يتم ربط هذه المنتجات وتسعيرها بالليرة، وتثبيت سعرها عند حدود تكلفة محلية مستقرة؟!

ثلاث محاور لسياسات جديّة

العملية تتطلب سياسات جديّة في اتجاهات أساسية يمكن وضعها في ثلاث نقاط:
أولاً الغذاء: التركيز والانطلاق من منظومات إنتاج غذائي محلية في المواد الغذائية الأساسية المستوردة وتحديداً في إنتاج الطحين، والسكر، والزيوت، وأعلاف الدواجن، وحليب الأطفال، وصولاً إلى الأرز الذي يتضح أنه من الممكن زراعته محلياً. وهذا عبر تخصيص كتلة استثمار لدعم زراعات أساسية وتصنيع غذائي وتوزيع مدعوم، أمّا الهدف فهو عزل الغذاء عن الدولار وتخفيض أسعار سلة الأساسيات التي أصبحت تكاليفها أكثر من 6 أضعاف الحد الأدنى للأجور!
ثانياً الصناعات التحويلية: دعم مجموعة الصناعات التحويلية الأساسية التي تقلل المستوردات، والتي قدّرتها الجهات الحكومية بأنها يمكن أن تغطي أكثر من 70% من الاستيراد عبر أكثر من 80 مادة يمكن أن تصنّع محلياً. ولكنها تحتاج إلى كتلة استثمارية... قد لا تحتاج هذه الخطوة أكثر من تسهيلات حكومية، وكتلة إقراض فالصناعات التحويلية الخاصة أبدت مرونة عالية في عامي 2017-2018 عندما ارتفعت القيم الحقيقية لناتجها لتصبح أعلى من مستوى عام 2010! ونمت بمعدل فاق 30% في 2017 فقط نتيجة الاستقرار الأمني نسبياً واستقرار سعر الصرف.
لا يمكن توقّع والتوقف عند مبادرات المستثمرين الخاصين في هذا المجال، لأن هؤلاء لن يقدموا على توسيع الاستثمار الإنتاجي إلا بتأمين الحد اللازم من استقرار سعر الصرف ومستويات التضخم، والأهم بمواجهة التحدي الأكبر للعمليات الإنتاجية وهو نفوذ قوى المضاربة والتهريب التي تمنع استقرار السوق وتربطها بالدولار.
هذا عدا عن جملة الصناعات العامة المتوقفة في مرحلة ما قبل الأزمة وخلالها والتي تراجع جزء هام منها إلى حد التوقف في السنوات الماضية، والتي يمكن بمستويات استثمارية إحياء أعمالها بشكل تدريجي، حيث أكثر من 24 صنف صناعي متوقف قبل الأزمة كنتيجة للبدائل الاستيرادية والفساد الذي أنهى فعالية التصنيع العام مثل: (الإطارات الداخلية والخارجية، البيليت والقضبان الحديدة والأنابيب المعدنية، المحركات الكهربائية والمحولات الكهربائية متوقفة منذ عام 2008-2009، والبطاريات الجافة والبطاريات السائلة، البوتوغازات والأفران، مقاطع الألمنيوم، الجرارات، عدادات المياه والكهرباء، المنتجات الزجاجية والخزفية، أترنيت، السيراميك، قرميد الجدران وغيرها). بينما تراوحت نسب التراجع في باقي الصناعات العامة المتباقية بين 44% وصولاً إلى 99% في صناعات مثل: (الطحين والخبز، الزيت النباتي وكسبة القطن، الحليب المبستر، التبغ، منتجات السكر، الغزل والأقمشة، الجلود والأسمدة، التلفزيونات والكابلات والإسمنت...) وجميعها صناعات بناها التحتية وخبراتها لا تزال متاحة ومتوفرة وبعضها لا يزال قيد التشغيل، ولكنها تحتاج فقط للتوسع إلى إنفاق استثماري عام من مخصصات الليرة المودعة في المصارف وفي الخزائن والتي لا يتم توظيفها. (قاسيون 954).


أما ثالثاً سياسات نقدية وتجارية بديلة: هنالك كتلة مستوردات أساسية لا بُدّ منها مثل الوقود حالياً ومستلزمات صناعة الأدوية وغيرها والتي يمكن تحديد أنواعها وكمياتها بدقة، إن تأمين هذه الكتلة يجب أن يجري من خلال قنوات رسمية ودون الدولار وخارج المنظومة المصرفية الغربية، وكل هذا ممكن عبر علاقات مع أطراف قادرة على تجاوز العقوبات: بإنشاء بنوك مشتركة وآليات مقايضة واستخدام العملات المحلية، وفتح حسابات باليوان الصيني والمتاجرة مع الصين عبره، وهي الآليات التي تم تفصيلها سابقاً ولا موضع كاف هنا لعرضها بالكامل. (قاسيون 969).
الأساسي أنه ينبغي أن يتم استخدام الليرة لاستقلالية الغذاء وإنتاجه محلياً، وأن تُفتح الأبواب لتوسيع نطاق التصنيع التحويلي المحلي الذي يخفف عبء الدولار ويزيد الدخل الصناعي المحلي، وأن يتم البحث عن بدائل في السياسات النقدية والتجارية لاستيراد جزء من الأساسيات دون زيادة الطلب على الدولار.

ليبرالية النافذين التي ابتلعت جهاز الدولة

إنّ مثل هذه الإجراءات هي انعطافة في السياسة الاقتصادية العامة، وتحتاج إلى جهاز دولة لديه قدرة على القرار، وبالتالي لديه موارد وقدرة على التنفيذ، وهو ما تفتقده البلاد! فالحكومات التي لا تستطيع أن تحكم فعلياً في سورية هي نتاج بنية سياسية، حيث الوزن كبير لقوى الفساد والمضاربة في دوائر النفوذ الحاسمة.
هذه القوى التي تبنت الليبرالية الاقتصادية منذ مطلع الألفية لم تكن فقط عاملاً هاماً في تفاعل التناقضات الداخلية وانفجار الأزمة، بل أكثر من ذلك أدارت الأزمة الاقتصادية المتعمقة خلال السنوات الماضية بما أتاح بتغوّل أمراء الحرب والمضاربة وتراجع ما تبقى من إنتاج ومنتجين.
والأمثلة كثيرة: حيث تم عملياً إنفاق جزء هام من الاحتياطي لتزويد سوق المضاربة بالدولار طوال السنوات الخمس الأولى من الأزمة، وذلك جزء من السياسة النقدية الليبرالية التي تسعى وراء استقرار سعر الصرف وليس القدرة الشرائية للعملة المحلية. وتمّ تفكيك ما تبقى من منظومات إنتاج غذائي فانتهت زراعة الشوندر والقطن وتراجع القمح دون مسعى جدي لاستعادتها، بل هنالك سعي واضح لتفكيك منظومة إنتاج الخبز وهي الوحيدة المتبقية!
وتم اعتماد منطق إجازات الاستيراد وتمويل المستوردات بالدولار عبر المصرف المركزي كآلية لتثبيت أسعار المواد المستوردة، ولكن هذه السياسة ضيقت دائرة الاستيراد وحصرتها بقلّة متنفذة، وأمّنت لهم التزوّد بدولار رسمي أقل من سعر السوق ومفيد للمضاربة، وتمّ غضّ النظر عن تسعيرهم لمستورداتهم بسعر دولار السوق... لتتوقف هذه الآلية لاحقاً ويُترك التسعير لهم دون ضوابط، وآخرها ما أُعلن خلال الأسبوع الماضي بوقف تمويل مستوردات حتى السلع الغذائية الأساسية!
هذا عدا عن التخلي عن إيرادات الدولة في قطاع الاتصالات، واستخدامه لاستملاك الأراضي لمشاريع عقارية ريعية بالتشارك مع مستثمرين كبار بعد إخراج المواطنين عنوة من منازلهم و(تعويضهم بالقطارة) وتركهم للإيجارات في هذه الظروف... كما تم الترخيص لمشاريع صناعية استهلاكية كمالية تعتمد على الاستيراد بشكل شبه كامل مثل تجميع السيارات، والأسوأ تمّ ترك أمراء الحرب لينشطوا في المضاربة والتجارة السوداء والتهريب والأتاوات وغيرها...
بينما بالمقابل لم تتم أي خطوة جدية من آلاف التصريحات التي تتحدث عن دعم الإنتاج حتى على مستوى تسوية قروض الصناعيين وإعفائهم، أو على مستوى إعادة إقراض المزارعين، بينما آلاف مليارات الليرات مكدّسة في المصارف العامة والخاصة.
إن هذه السياسات هي استكمال لما سبق منذ أن تمّ تبني الليبرالية الاقتصادية، وسنوات الحرب لم تغيّر شيئاً، بل كانت ولا زالت السياسات الاقتصادية المتبّعة بمثابة اعتداء وتحدّي حقيقي في وجه استمرار البلاد: ساهمت مساهمة فاعلة في إفقار الملايين، في تقليص جدوى الإنتاج وهجرة المنتجين والكفاءات، وساهمت بانهيار الليرة وهشاشتها، وعززت سطوة أمراء الحرب الذين يحاصرون السوريين في لقمة عيشهم بعنف لا يقل عن عنف الحصار الخارجي، لتكون هذه السياسات ورعاتها تهديداً لاستمرارية البلاد ونجاحها في المرور من (عنق الزجاجة) الذي تشكله العقوبات.

 

معلومات إضافية

العدد رقم:
971
آخر تعديل على الثلاثاء, 23 حزيران/يونيو 2020 16:44