مطلوب (دولة) لاستعادة منظومات الغذاء المحلية وفصل الجوع عن الدولار
ترتفع التقديرات الدولية لحجم أزمة الغذاء والجوع في سورية بوتيرة غير مسبوقة، فإذا ما كان ملايين جدد يفقدون أمنهم الغذائي خلال عام، فإن هذا المعدل أصبح يتحقق خلال أشهر...
وفقاً لآخر تقديرات برنامج الغذاء العالمي، إن عدد من هم غير آمنين غذائياً في سورية ارتفع إلى 9.3 مليون شخص، بينما كانت التقديرات في نهاية عام 2019 تشير إلى: 7.9 مليون سوري، وقبلها سجلت نهاية عام 2018: 6,5 مليون سوري غير آمن غذائياً...
ما يعني، أن الأشهر الخمسة الأولى من العام الحالي شهدت دخول 1,4 مليون سوري إضافي إلى دائرة خطر الجوع، وأن المعدل الشهري الوسطي لتوسع الجوع تضاعف مرتين ونصف بين عام 2019 وعام 2020!
هذا التسارع الاستثنائي سببه الأساس ارتفاع أسعار الغذاء داخل البلاد، والناجم عن جملة عوامل... أهمها: التدهور الكبير في القدرة الشرائية لليرة السورية، وارتفاع سعر الدولار، الذي أصبح محدد التسعير حتى في سوق الغذاء المحلي. إضافة إلى مستويات احتكار أسعار الغذاء وتضخيم كلف استيراده، هذا عدا عن إتاوات نقله داخلياً ونقص الكميات، الناجم عن تهريب الفوائض الغذائية للخارج، كما يظهر واضحاً في الثروة الحيوانية.
ومحصلة كل هذه العوامل، أن سوق الغذاء السوري الذي أصبح يشكل أكثر من نصف إنفاق الأسر، هي سوق مرتبطة بالدولار إلى حد بعيد وترتفع بارتفاعاته.
330 ألف ليرة تكاليف السلة الغذائية
وفق حسبة قاسيون لسلة الغذاء والمشروبات الضرورية لأسرة سورية، فإن تكاليف هذه السلة بلغت في الأسبوع الماضي: 330 ألف ليرة مرتفعة بمقدار 100 ألف ليرة عن نهاية شهر 3-2020، ونسبة ارتفاع: 43% خلال قرابة 70 يوماً!
وخلال فترة الارتفاع القياسي في سعر الصرف في السوق السوداء منذ شهر 9-2019، فإن أسعار الغذاء بدأت ترتفع بوتائر متقاربة. وبالمحصلة فإن أسعار الغذاء ارتفعت بنسبة 240% عن مستوى شهر 9-2019، بينما سعر الدولار ارتفع بمستوى 425% تقريباً، الأمر الذي يعكس إلى حد بعيد تركيبة مكونات سلة الغذاء... إذ أن نسبة المكونات المستوردة في السلة تقارب 54% من تكاليفها. وأهمها: الرز، والحلويات، والزيوت النباتية عدا زيت الزيتون، والشاي والقهوة، إضافة إلى مكون هام لغذاء الأطفال ضمن سلة الفاكهة وهو الموز، وأخيراً، الأعلاف المستوردة لتغذية الدواجن التي تشكل نسبة 80% من تكاليف الفروج والبيض تقريباً.
ربط الغذاء بالليرة وتقليص الربح من الجوع
إن فصل أسعار الغذاء عن الدولار هي ضرورة ملحّة لمواجهة توسّع الجوع، وهو لا يمكن أن يبقى مقتصراً على ربطة الخبز المدعوم التي أصبح الحصول عليها أعقد، أو حتى مخصصات السكر والرز بسعر أقل في مؤسسات التجارة الداخلية... لقد أصبحت هذه الإجراءات قاصرة وهامشية، وتحديداً مع كل ما يرافق عمليات توزيعها من نقص وتسريب وازدحام، يجعل الحصول عليها مشقّة بل ومذلّة في كثير من الأحيان.
عملية فصل الغذاء عن الدولار لها شقان أساسيان، الأول: زيادة الإنتاج المحلي، والثاني: تقنين الاستيراد ووجود طرق أخرى له، وفي كلتي الحالتين نحتاج إلى دور جهاز دولة فعّال يفصل المضاربة والربح عن حاجات الغذاء.
تقليل وزن الدولار في السلة يتطلب إعادة إنتاج الأساسيات الغذائية المستوردة وفق ما يمكن، فإن كنا لا نستطيع أن ننتج الشاي والقهوة... ربما علينا أن نستعيد إنتاج السكر! حيث من الضروري استعادة المنظومة الغذائية السابقة لإنتاج السكر في سورية، والقائمة على دعم زراعة الشوندر، وشرائه من المزارعين، وتصنيعه في معامل السكر مع كل المنتجات الأخرى الناتجة المرافقة (الخميرة، الكحول، وغيرها). ليس فقط للانتهاء من كلفة استيراد تقارب 170 مليون دولار سنوياً كما في 2018، بل لتحويل كتلة كبرى من الليرة إلى دخل يُستثمر في الزراعة والصناعة والاستهلاك الغذائي المحلي، وهي منظومة مستدامة تستطيع أن تحوّل هذا المكون الغذائي الأساسي إلى استثمار ودخل بالعملة المحلية موزع على شرائح واسعة، عوضاً عن منظومة الاستيراد الحالي، حيث يتمركز ربح تجارة السكر المستورد لدى المستورد الاحتكاري للمادة والمصارف الخارجية والداخلية التي تخدم استيراده، مع عائدٍ أقل لشريحة ضيقة من تجار الجملة والتجزئة، مساهماً بربط مكون الحلويات في سلة غذاء السوريين بالدولار ومتيحاً ربحاً كبيراً لشريحة أقل تتعامل بالدولار وتمتهن المضاربة به.
وعلى هذا المقياس ينبغي أيضاً استعادة إنتاج الزيت النباتي، والبحث عن بدائل عن زيت بذر القطن في حال عدم كفاية القطن المزروع، كما ينبغي البحث في تقليص مستوردات الحبوب الأساسية، مثل: زراعة الرز التي كانت موجودة سابقاً في الجزيرة السورية والغاب، كما تم العمل البحثي على اختيار أصناف وبذار لزراعته الهوائية غير المغمورة بالمياه وبكلف قليلة نسبياً، يضاف إلى ذلك الأعلاف المستخدمة في تربية الدواجن (الذرة الصفراء وكسبة الصويا) التي ينبغي العمل إما على زراعة جزء منها، أو البحث عن بدائلها إذا ما كانت تتطلب موارد مائية كبيرة.
(دولة) لاستعادة منظومات الغذاء
من الضروري تخصيص الموارد المالية بالليرة السورية لاستعادة وتعزيز أو حتى خلق منظومات غذائية زراعية- صناعية مع كل ما تتطلبه من خدمات بحث علمي ونقل وتخزين، لأنها الطريق الأساس لمواجهة الجوع ولربط الليرة بالغذاء وعزل الدولار عنه. كما أنها الطريقة الأهم لإعادة توزيع الموارد على شرائح اجتماعية واسعة، عوضاً عن تركز الموارد الدولارية لدى قلة قليلة في سوق الغذاء، كما في أغلب عمليات الإنتاج والتداول السورية حالياً.
لا يمكن أن تتم هذه العملية دون مشروع لجهاز الدولة، وموارد مالية عامة... وهنا تكمن المشكلة، إن منظومات من هذا النوع تستعيد استقلال الغذاء وتجعل سوقه محلية وأقل ربحية، ستعني خسائر مباشرة وكبيرة لقلة قليلة تتحكم بموارد ومفاصل جهاز الدولة من مستوردي الأساسيات الغذائية أصحاب النفوذ الكبير. ولكن ربح هؤلاء ينقل الملايين إلى دائرة الجوع شهرياً، ويفتح جميع الاحتمالات على المستوى السياسي والاجتماعي، ولذلك لا يمكن تجاهل أن استعادة فعالية هذه المنظومات وتطويرها هو قرار سياسي، لن يُتخذ إلا بوجود وزن سياسي للجوعى والمنتجين وعموم السوريين، ليفرضوا قرارهم ومصلحتهم على دوائر النفوذ والربح الضيقة المرتبطة بالدولار.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 970