التوقف الاقتصادي... ما العمل؟ الاستفادة من تجربة الصناعة التحويلية السورية 2017

التوقف الاقتصادي... ما العمل؟ الاستفادة من تجربة الصناعة التحويلية السورية 2017

يعمّ التوقف الاقتصادي في الظرف السوري الحالي، ومن المتوقع أن يتوسع مع كل تعقيد جديد يضاف إلى لوحة المعطيات السورية: العقوبات، الأوضاع الإقليمية، وضع الدولار ومصالح نخب المال السورية... وغيرها، وبالمقابل لا توجد أية حركة جدية لمواجهة الركود، مع العلم أن مبادرات فعّالة نحو الإنتاج ممكنة وتستطيع أن تخلق نمواً سريعاً.

الجميع يعلم، أن ظروف الدمار و«للأسف» تعتبر فرصة اقتصادية، فمنطقياً عندما تنتقل من التوقف إلى الحركة فإنك تحرّك النمو من صفر إلى 100% على مستوى المنشأة التي كانت متوقفة، فباستثمار لتحريك النشاطات المتوقفة فقط تنتقل من لا شيء إلى إنتاج بضائع جديدة وتشغيل واستهلاك.

 

 

لا نحتاج إلى تجارب عالمية لإثبات هذا فالتجربة السورية خلال عامي 2016-2017 تشير إلى الإمكانية الكبيرة المتاحة لتحريك النمو.
بالعودة إلى المجموعات الإحصائية السورية الصادرة رسمياً وآخرها لعام 2017، فإنه على الرغم من استمرار الناتج المحلي الإجمالي بالتراجع إلَّا أنَّ نمواً قد تمّ تسجيله في قطاعين هامَّين: الزراعة والصناعة.
وإن كانت مستويات نمو الزراعة الإجمالية أقل، إذ سجّلت نمواً 3% بين 2016-2017، إلّا أن الصناعة قد نمت بمعدل 10% في 2016 ثمّ نمت بمعدل 26% في 2017... والصناعة هنا تشتمل على مجموع الصناعات الإستخراجية (نفط وغاز وأحجار ومقالع وفوسفات وغيرها) والصناعات التحويلية في القطاعين العام والخاص مضافاً إليهما إنتاج خدمات الكهرباء والماء. (الجدول 9/15 في المجموعة الإحصائية لعام 2018). وهذه معدلات مرتفعة لم تشهدها الصناعة السورية منذ النصف الأول من السبعينات.

الصناعة التحويلية أعلى من عام 2010!

الملفت أنه ضمن نمو الصناعة المذكور، فإن النمو الفعلي المؤثر هو في الصناعة التحويلية التي تشمل جميع المنتجات المصنعة باستثناء الصناعات الاستخراجية وإنتاج الكهرباء والماء، حيث نمت في عام 2016 بنسبة 15% وتضاعف النمو إلى 31% في 2017...
والأهم، أن القيمة الحقيقية لناتج التحويلية في عام 2017 قد زاد عن قيمة عام 2010 أي قبل الأزمة بنسبة 8%. أي إن هذه الصناعة استطاعت خلال فترة قصيرة أن ترمم خسارتها من حيث رقم الناتج، وأن ترتفع إلى مستوى أعلى مما قبل الأزمة.
نمو الصناعة التحويلية في عامي 2016-2017 أعطى مؤشرات استدامة، لأنه لم يكن معتمداً على قطاع واحد، بل توسعت كل قطاعات الصناعة التحويلية تقريباً: (الغذاء، والملابس والنسيج، والكيماويات، والمعادن وغيرها). بينما في عام 2014 على سبيل المثال ارتفع مؤشر الصناعة التحويلية بنسبة تفوق الـ 100%، ولكن هذا النمو لم يكن مستداماً لأنه كان متمركزاً بالدرجة الأولى في قطاع الكيماويات، وتحديداً تكرير البترول، وهو ناجم عن عودة التكرير في المصافي وإنتاج المشتقات بعد تدفق النفط الخام من الائتماني الإيراني، بينما كان إنتاج المشتقات في 2013 قليلاً جداً.

ما الاستثمار الذي تَطَّلبه هذا النمو؟

لقد تحقق هذا النمو باستثمار مبلغ لا يتعدى 1% من مجمل الناتج السوري في حينه، و16% من ناتج الصناعة التحويلية، وهي نسب قليلة تشير إلى أنه من الممكن تحقيق نتائج سريعة، حتى دون استثمار مبالغ كبرى.
فمقابل كل ليرة تمّ استثمارها في رأس المال الثابت (إنشاء وآلات وتجهيزات) تحققت 5 ليرات قيماً مضافة في 2016، ومقابل كل ليرة استثمرت في 2017 تم تحقيق 6,8 ليرة دخلاً صناعياً جديداً يضاف إلى مجمل الناتج السوري.
لقد تحقق هذا النمو باستثمار كان في أقصى حالاته أقل من 120 مليار ليرة، أي حوالي 250 مليون دولار في حينها لم تشكّل نسبة 1% من مجمل الناتج السوري كما ذكرنا أعلاه.

 

 

 

كيف حصل هذا؟
عوامل البيئة الاقتصادية المساعدة على نمو الصناعة

لقد توقف هذا النمو الآن، لأن الظروف المحيطة التي سمحت بتفعيل الاستثمار لم تعد متوفرة. فبيئة النشاط الاقتصادي هي محدد حاسم لوجود النمو وعدمه، وهي في سورية محاطة بالألغام والتعقيدات. فما هي عناصر البيئة الاقتصادية التي جعلت استثماراً بمقدار أقل من 250 مليون دولار يخلق قيماً صناعية جديدة تقارب 1,8 مليار دولار في عام واحد، وما وضع هذه العناصر حالياً؟

أولاً الظرف السياسي والأمني

العامل الأساس هو الظرف السياسي والأمني العام، ففي عامي 2016-2017 بدأت تظهر النتائج الاقتصادية للمنعطف السياسي في الحالة السورية، ففي عام 2015 بدأ توقف التدهور، وفي 2016 بدأ التسارع في انحسار ظاهرة الإرهاب التي كانت تهدد بالوصول إلى نقطة اللاعودة. وفي عام 2017 تبين مع مسار أستانا إمكانية أن تتحول التوافقات السياسية الإقليمية والدولية والمحلية إلى فعل على الأرض يوقف المعارك، وهذا ما حصل في العديد من المناطق الهامة بالمعنى الصناعي تحديداً، مثل حلب، وريف دمشق، وحمص وغيرها.
وهذا العنصر حالياً غائب رغم الكثير من محاولة الإيهام (بالأمن والأمان)، إلّا أنّ واقع تعطيل التقدم في الحلول السياسية، وتشديد العقوبات، وتدهور الوضع الاقتصادي ووضع الليرة، وسلوك نخب المال المضاربة وتوجيهها للسياسة الاقتصادية، جميعها عوامل تنبئ بفتح باب الفوضى والاضطرابات بما فيها العودة إلى العنف. وتنبئ أيضاً بسياسات اقتصادية غير متوقعة نتيجة أزمة النخب المالية الكبرى غير المنتجة، وتناقضاتهم وسعيهم إلى مزيدٍ من تمركز الثروة والمال: كأن يرفعوا الإتاوات، ويصعّبوا الاستيراد والتصدير، ويعقّدوا الإجراءات البيروقراطية ويدفعوا للمصادرات المالية، وصولاً لتركيزهم على نشاط المضاربة والمتاجرة بالدولار وغيرها... وكل هذا يعطي عدم ثقة بإمكانية توسيع النشاط الاقتصادي في الظرف الحالي، بل حتى استمراره.

ثانياً استقرار تدفُّق الطاقة

أما العامل الثاني المؤثر إيجاباً في نمو الصناعة عامي 2016-2017 فهو يرتبط بالمدخل الهام للصناعة، وهو الطاقة. فعلى الرغم من الارتفاعات الكبرى في أسعار الطاقة وفي أسعار الكهرباء الصناعية تحديداً في مطلع 2016، إلّا أنَّ زيادة الإنتاج والاستقرار في إمدادات الطاقة الذي أمنه التدفق المستمر في النفط الخام من الائتماني الإيراني كان عاملاً هاماً في استقرار الصناعة، واستطاعت الصناعة أنْ تتكيف نسبياً مع رفع تكاليف الطاقة مقابل استمرار التدفق أو تحسنه على الأقل.
وأيضاً هذا العامل اليوم يبدو مضطرباً، فقد ارتفعت تكاليف الطاقة كثيراً مع تشديد العقوبات وتوقف الائتماني، والاعتماد على مجموعة من السماسرة لتأمين الطاقة للبلاد بمستوى أعلى من الكِلَف، ليشكلوا عبئاً إضافياً... والأهم، أنَّ إنتاج الطاقة الكهربائية وهو حاسم لهذه الصناعة عاد للتراجع أو لا يتوسع وهذا يكبح توسع الصناعة.

ثالثاً استقرار الليرة والدولار

العامل الثالث هو قيمة الليرة وسعر الدولار، منذ منتصف 2016 استقر سعر صرف الدولار وتوقفت عمليات التقلب لمدة فاقت العامين تقريباً. وهذا العامل ناتج بالدرجة الأولى عن استقرار العمليات الإنتاجية، وهو بدوره يؤثِّر عليها إيجاباً. فالإنتاج الصناعي يحتاج إلى استقرار التكاليف والتسعير لأن أسواقه وإمكانية تجديد إنتاجه ترتبط بها، ولما كان الجزء الكبير من الكِلَف الصناعية (مدوّلراً) ويعتمد على المواد المستوردة فإن استقرار سعر الدولار يساعد الصناعة على تحديد تكاليفها وأسعارها.
وهذا العامل اليوم هو الأقل استقراراً، مع الارتفاع المستمر في سعر صرف الدولار منذ نهاية 2018، وتراجع الليرة التدريجي الذي يؤدي إلى توقف الصناعة وهي بدورها بتوقفها تزيد من تراجع قيمة الليرة، وبالتالي ارتفاع الدولار... وهذا التدهور في قيمة الليرة وصل إلى مستوى متسارع وغير مسبوق خلال الشهرين الماضيين ليوقف ما تبقى من الصناعات أو يبطئ حركتها، ويفتح الاحتمالات نحو المجهول.

رابعاً استقرار السوق والطلب

أخيراً، هنالك عامل هام وهو الأسواق، أي أين تصرّف هذه الصناعة بضاعتها؟... والأسواق هي عامل ضعف في الصناعة السورية في ظرف الأزمة وحتى قبلها. فمع قدرات الطلب الضعيفة في السوق المحلية فإن التصنيع السوري التحويلي بمجمله تصديري، بينما أسواق التصدير المتاحة تقليدياً لم تكن متاحة بشكل مستمر خلال الأزمة ومع العقوبات.
ولكن استقرار الأسعار والكِلَف والتدفق الإنتاجي يساعد على تحسين البحث عن أسواق، وهو ما تأمن في فترة النمو المذكورة، واستطاع المصنعون السوريون أن يستمروا بتصدير القليل من إنتاجهم إلى الأسواق المختلفة، وتحديداً إلى الخليج وأوروبا عبر لبنان والأردن، مع الاستفادة من انخفاض التكاليف السورية وتحديداً الانخفاض القياسي في كلفة الأجور.
كما أنَّ الطلب المحلَّي توسَّع نسبياً في عام 2017 تحديداً، عندما استقرت الأسعار وانخفض بعضها لفترات مؤقتة، وزادت قدرة السوريين على استهلاك الأساسيات المنتجة محلياً، مثل مواد غذائية مصنّعة ملبوسات وغيرها...
أما اليوم، فإن عامل الأسواق أيضاً يتلقى ضربات قاسية، فأسواق التصدير الإقليمية وبواباتها الأساسية عبر لبنان مضطربة بالإضافة إلى عدم وضوح في الوضع مع العراق والأردن. وعموماً، وضع العقوبات وتشديدها يجعل التصدير كباب أساس لسوق الصناعة السورية غير مستقر. يُضاف إلى هذا أن الطلب المحلِّي يتآكل بسرعة قياسية حيث خسر السوريون 72% من قيمة ليرتهم مقابل الدولار خلال أقل من ثلاثة أشهر.

السياسات الضرورية لتأمين بيئة مناسبة

أربعة عوامل أساسية تعتبر حاسمة في تأمين البيئة الاقتصادية المناسبة للصناعة التحويلية كي تنمو كما نمت في عامي 2016-2017. ونموها عالي الأهمية لأنها المشغّل الأكبر، والمولّد الأهم للدخول الحقيقية الإضافية، كما أنها تغطي جزءاً هاماً من الطلب المحلِّي، وتقلِّص كتلة الدولار، وتستطيع أن تؤمّن قطعاً أجنبياً مع فتح احتمالات التصدير أمامها.
هذه العوامل الأربعة: الظرف السياسي الأمني، تأمين الطاقة، استقرار الليرة، تأمين الأسواق. هي الحواضن التي يجب أن تتأمن عبر السياسات، ليكون تخصيص الأموال للاستثمار في الصناعة يحقق نمواً قابلاً للاستدامة في وجه صعوبات العقوبات وغيرها.
أمّا كيف تتأمن، فأولاً بالتفاعل الإيجابي مع المبادرات للحل السياسي للأزمة السورية، لأنه الباب الوحيد الذي يعطي أملاً بأن سورية بذاتها قابلة للاستدامة وتحتضن جميع أبنائها فعلاً لا قولاً.
ثانياً تجاوز العقوبات بسياسات جذرية في مجالي الطاقة وعموم الاستيراد... وذلك عبر توقيع اتفاقيات مع الدول الكبرى المستعدة سياسياً واقتصاديا لتجاوز العقوبات، لتقوم الدولة بالاستيراد المباشر دون وسطاء ودون دولار، بفتح حسابات مركزية بالعملتين الروسية لتأمين تدفُّقِ النفط الخام إلى المصافي السورية، وبالعملة الصينية لتأمين تدفق المستوردات الأساسية سواء من الغذائيات أو مستلزمات الصناعة. وبهذا يتأمن للصناعة السورية ولعموم القطاعات الإنتاجية تدفق طاقة مستمر بتكاليف أقل، ومستلزمات مستوردة معزولة عن سعر الدولار العالمي وأيضاً بتكاليف أقل.
أما ثالثاً فهو تأمين الأسواق، فإن فتح منافذ تصدير عبر العراق والأردن ولبنان قد يكون داعماً سريعاً للصناعة المحلِّية، ولكنه لا يعتمد على الجهود أو السياسات السورية فقط، لذلك لا ينبغي التعويل عليه فقط. يجب أن تركز السياسات على زيادة الطلب المحلِّي، فعموماً الصناعة في دول منخفضة الدخل مثل سورية تعتمد بنسبة 90% على السوق المحلية كما تشير منظمة اليونيدو. إنَّ توسيع السوق المحلية يقتضي تحريك كتلة الليرة نحو الأجور وأيضاً نحو تحريك النشاط الاقتصادي بأوجهه المختلفة، لتشكل حركة الزراعة طلباً إضافياً لمنتجات الصناعة المحلية، وحركة الخدمات والبناء كذلك الأمر.
إنَّ السوق المحلية تحتاج كل شيء وتستطيع أن تؤمن طلباً كافياً لتوسع الصناعة ولكن الأمر يقتضي إطلاق شرارة الحركة عبر تدفق الأموال المتكدسة بالليرات السورية في شرايين الاقتصاد السوري، وذلك شريطة تقليص كتلة الطلب على الدولار عبر تقليص الاستيراد بالدولار، وعبر استخدام عملات أخرى كما ذكرنا سابقاً، وأيضاً بوقف تهريب الأموال.
قد تبدو هذه الإجراءات محددة وبسيطة أو بدهية للبعض، إلّا أن عدم تحققها يرتبط في العمق بالمصالح الاقتصادية- السياسية لشرائح النهب السورية غير المنتجة وذات النفوذ الحاسم في السياسة الاقتصادية. حتى اليوم يعتبر نفوذ المستفيدين من الأزمة حاسماً في التفاعل الإيجابي مع التسوية السياسية، كما لم نزح الدولار من تعاملاتنا لأن المتاجرة بالدولار والاستيراد به هي مجال ربحهم الرئيس، ولم نحرّك الأموال نحو الإنتاج المحلي لأنه منافس للاستيراد... إن انفتاحاً سياسياً ومواجهة فعلية للعقوبات تتيح توسع الصناعة وغيرها، ولكنها تقتضي أولاً تقليص قدرة هذه النخب على العرقلة مع وقوفهم في وجه كل ضرورات السير للأمام، ومع اصطفافهم الفعلي مع الطرف الساعي نحو الفوضى.

 

 

معلومات إضافية

العدد رقم:
945
آخر تعديل على الإثنين, 23 كانون1/ديسمبر 2019 13:41