الأغنى جغرافياً.. الأكثر فقراً... محافظات الشمال الشرقي تغرق بالفقر، والحكومة آخر الواصلين..
أصبح الاعتراف الحكومي بأن المناطق الشمالية الشرقية هي من أشد المناطق فقرا في سورية أمراً عادياً ودارجاً على صفحات الإعلام العام والخاص، وفي الندوات والمؤتمرات، وتوجت تلك المحافظات بطلة للفقر على مثيلاتها من باقي المحافظات ، ونعمت بلقب " أفقر"، بدلا من أن تمنحها جغرافيتها لقب "أغنى"، فتلك المحافظات هي في الحقيقة خزان سورية الاقتصادي، وقلبها الزراعي والبترولي والمائي، هي باختصار مناجم الذهب " الأبيض والأسود، والأصفر" فلماذا تكون الأفقر؟ هذا هو السؤال الذي تجاوزته كل الدراسات الاقتصادية الرسمية التي كان همها الوحيد قياس الفقر رقمياً دون تعليله، وتفسيره اجتماعيا، ودون تقديم بدائل حقيقية لتجاوزه.
في العام الماضي صدر أول اعتراف رسمي بفقر تلك المناطق من خلال الدراسة التي أعدتها هيئة تخطيط الدولة مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وقد جاء في نص الدراسة بالحرف ما يلي "وفي حين ينتشر الفقر بشكل عام في المناطق الريفية بسورية أكثر من المناطق الحضرية، إلا أن أوجه التباين قد تركزت في البعد الجغرافي. فعلى سبيل المثال، شهدت المناطق الشمالية الشرقية (إدلب، حلب، الرقة،دير الزور، الحسكة) سواء كانت ريفية أو حضرية، أعلى معدلات الفقر سواء من حيث انتشاره أو من حيث شدته أو عمقه. من ناحية أخرى، تتمتع المناطق الحضرية الجنوبية بأقل معدلات الفقر، في حين تشهد مناطق الوسط و الساحل معدلات متوسطة من الفقر"
أمام الواقع الاجتماعي والاقتصادي المزري للمحافظات الشرقية، وأمام ما تطرحه الحكومة السورية اليوم مما تسميه "تنمية للمناطق الشرقية"، و"تنمية البادية"، وأمام ما تضعه من برامج اقتصادية لذلك نسأل: ماذا تريد الحكومة من تلك المحافظات بعد عشر أو خمس عشرة سنة من الآن مثلاً؟ وأي استراتيجية سوف تستخدم للقضاء على الفقر المدقع والتخلف الاجتماعي الذي يطوق أبناء تلك المحافظات؟ وهل لدى الحكومة السورية برنامج عمل محدد المعالم وله دلالات تنموية حقيقية ينعكس بشكل ايجابي على تلك المحافظات؟ إنها مفارقة تنموية شديدة التناقض، أن ينتشر الفقر في أغنى المناطق، وإن دل هذا على شيء فهو يدل على فشل وإخفاق السياسات التنموية التي كانت سائدة طيلة العقود الماضية، فحتى الآن يعامل أبناء تلك المحافظات تعليمياً على أنها محافظات نامية، وحتى الآن يتوجه أغلب أبنائها لتلقي العلاج بالعاصمة، وللبحث عن عمل أيضاً نتيجة انتشار البطالة، وعدم وجود مشاريع صناعية وخدمية تستوعب الشباب وتنقلها من العمل الزراعي إلى ميادين عمل أخرى.
إن وضع تلك المحافظات الآن هو محك لقدرة الحكومة السورية من خلال خطتها الخمسية العاشرة، والخطط الخمسية المقبلة على تعديل وضعها فعلياً لا نظرياً عبر تبني سياسات تنموية شاملة على مستوى البلاد وسياسات جزئية على مستوى المحافظات لحل مشكلة الفقر المنتشر.
يقول د.نبي رشيد معاون وزير الزراعة على هامش عرض نتائج التقرير الثاني لتقدير ورسم خارطة الفقر الريفي في سورية "إن مفهوم الفقر متغير حسب الزمان والمكان". فالفقير عام 2006 هو ليس كالفقير عام 1950 ،والفقير في أفريقيا ليس كالفقير في أوروبا، ذلك لأن الحاجات مختلفة ولأن طبيعة المجتمعات تفرض حاجات متباينة وكثيراً ما يعرف الفقر بأنه عدم كفاية الدخل لشراء الحد الأدنى من السلع والخدمات، أي أنه عدم توفر القدرات الأساسية للعيش الكريم. ويتابع الدكتور رشيد يبقى السؤال قائماً كيف يمكن أن نواجه ونحل مشكلة الفقر؟ هناك مجالات عديدة يمكن العمل بها لتقليل عدد الأفراد الفقراء وهذا لا يمكن إن يتم إلا بتضافر جهود جميع القائمين على العمل في القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ولكن الأهم من كل ذلك تحديد خصائص ومواصفات الفقراء وتحديد أماكن وجودهم وأنشطتهم الاقتصادية والاجتماعية وكل ما يتعلق برسم ملامح ظاهرة الفقر.
يقول مدير الإرشاد الزراعي في وزارة الزراعة انه "تم بدء العمل بهذه الدراسة منذ بدايات 2004 ولا يزال مستمراً إلى الآن" والهدف منها تأسيس قاعدة بيانات عن واقع الفقر الريفي من خلال بحث ميداني يشمل عينة من الأسر الريفية الممثلة للريف السوري وتحديد الصفات السكانية وخصائص المجتمع الريفي والتوزع الجغرافي لمناطق الفقر ودراسة تحليلية للبيانات لمعرفة المشكلات التي يتأثر بها المجتمع الريفي والوقوف على أهم الطرق والوسائل الميدانية الناجعة والكفيلة بالوصول إلى المناطق الريفية وتخفيف الفقر وتلبية الاحتياجات.
يتألف المسح الميداني للفقر الذي أجري وفق تلك الدراسة من 30 ألف أسرة قام بها موظفون من ألف وحدة إرشادية بوزارة الزراعة برمجوا لزيارة واختيار 30 أسرة ريفية بطريقة عشوائية لكل 10 أسر تعيش بالقرب من الوحدات الإرشادية. وسورية من الدول العربية القليلة التي أعلنت عن ظاهرة الفقر مؤخراً حسب مديرية المرأة الريفية وبدأت تتعامل معها كمشكلة حقيقية، وقد سعت الدراسة لتسليط الضوء على كل المعطيات الخاصة بالفقر الريفي واعتمدت الدراسة على أربعة مؤشرات وهي مؤشر الإنفاق لكل فرد، ومؤشر تكرار استهلاك الأطعمة، وحصة الغذاء الرئيسي، وامتلاك الأسرة للمواد المعمرة، ووفقا لهذه المؤشرات فإن انتشار الفقر أعلى ما يكون في محافظات دير الزور - الحسكة - الرقة، بالإضافة إلى انتشار نسبي لظاهرة الفقر في محافظات (حلب - حماة - إدلب). بينما كانت مستويات المعيشة مقبولة في المحافظات الساحلية والجنوبية.
بعد أن اكتشفنا أرقام ومكان الفقر فما العمل؟ هل ستتعامل الحكومة مع هذا الموضوع بجدية ونية حقيقية لحله؟ هل ستحرض الاستثمار الصناعي على التوجه إلى تلك المحافظات؟ هل ستحرض الاستثمار التعليمي والخدمي على العمل فيها أيضاً؟ هل ستترك زماما المبادرة للقطاع الخاص لتنميتها أم أنها ستأخذ على عاتقها تلك العملية؟ إلى الآن لا يوجد إجابة واضحة ولا على سؤال واحد من هذه الأسئلة، وهذا معناه غياب الرؤية التنموية وضبابية التوجه الحكومي تجاه تلك المناطق.
على الرغم من أهمية مثل هذه الدراسات لما تكشفه من حقائق ميدانية وواقعية بعيدة عن التنظير إلا أن العنصر الأهم فيها هو كيف نعالج هذه المشكلة الخطيرة ومنع وصولها إلى مرحلة تهديد الأم الاجتماعي، والمرتبط عضوياً بلأمن الوطني. لا يجوز قراءة مشكلة الفقر على أناه مشكلة اقتصادية بحته، بل من جهة مخاطر تحولها إلى سياسية بامتياز. ومن هنا لابد من قرار سياسي بإعادة النظر في توزيع الدخل الوطني ولا يمكن الوصول إلى ذلك إلا من خلال اجتثاث قوى ومراكز الفساد الكبرى في جهاز الدولة وخاجه، لأن تجاهل هذه المخاطر سيفضي حتما إلى المزيد من التوتر الاجتماعي واضعاف الوحدة الوطنية لصالح أعداء الداخل والخارج.