النائب الاقتصادي في باكورة «الثلاثاء الاقتصادي» 2009: راتب الموظف يقسم اليوم على خمسة موظفين (فائضين)!!

«.. إننا كفريق حكومي في الإطار الاقتصادي لم ندَّعِ يوماً، ولن ندعي بأننا نملك الحقيقة الكاملة، ومن يدعي ذلك فقد جهل. نحن لا نقول إن ما نقوم به صحيح، وإنما نقول إن هذا ما توصلت إليه أفكارنا وقدرتنا واستنتاجاتنا واستنباطاتنا والوقت والموارد البشرية والمالية التي أتيحت لنا لتنفيذ ما نعتقد بأنه أفضل سياسة تنموية لسورية. هل هذه السياسة صحيحة مئة في المئة ولا تقبل النقاش؟ إذا قلت ذلك فإنني لا أستحق أن أكون في هذا الموقع..».

كان هذا جزءاً من المقدمة التي استهل بها نائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية عبد الله الدردري محاضرته في الافتتاح المتأخر جداً لموسم الثلاثاء الاقتصادي 2008 - 2009 التي تنظمها جمعية العلوم الاقتصادية السورية، في ندوة حملت عنوان «الخطة الخمسية العاشرة.. الحصيلة والتوقعات»، ومن يتمعن في هذه المقدمة «البليغة» سيجد أن فيها، بالحد الأدنى، توزيع مسؤولية تخبط السياسات الاقتصادية على جملة من العناصر: الظروف، والإمكانيات، الثقافة الاقتصادية... أما الفعل المبني للمجهول: (أتيحت) فلا ندري من هو فاعله: بقية الحكومة؟ القيادة السياسية؟ الاستثمارات الخارجية؟ القوى المعارضة للسياسات الليبرالية؟ أم كلها مجتمعة؟ الله أعلم!

وفي حين توقع البعض أن تكون هذه الندوة بمثابة جلسة محاسبة للنائب الاقتصادي، جاءت جمله الدبلوماسية المتمرسة لتساعده في المناورة وتفادي معظم الانتقادات، خصوصاً مع غياب عدد لا بأس به من كبار مناوئي السياسات الليبرالية في سورية لأسباب مختلفة.. والحصيلة أن النائب الاقتصادي صال وجال، واستهل حديثه بتوجيه (تنبيه وليس تهديداً) إلى أن جمعية العلوم الاقتصادية ليست جمعية صحفيين اقتصاديين لا تقدم كتاباتهم العامة أية «قيمة مضافة في عمق التحليل في كل قطاع على حدة أو الإجماليات الكلية».. بل المطلوب منها (من الجمعية) «كي تفعل علاقتها معنا ونتعامل معها مادياً ومعنوياً وأدبياً، أن تصبح ذراعاً- ليس معنى ذراعاً أن تقول ما نريد منها أن تقوله حاشا لله- بل بمعنى أن تقول لنا لقد أخطأتم هنا وأخطأتم هناك». مؤكداً على أن التعاون المطلوب منها هو «الذي سيحقق الدعم المادي والمعنوي من الحكومة للجمعية». وهنا قام د. كمال شرف رئيس جمعية العلوم الاقتصادية بمقاطعة الدردري مستفهماً: هل دعم الجمعية «مرهون بالتعامل»؟ لكن النائب ناور في الإجابة قائلاً: «باعتبارنا في مرحلة اقتصاد السوق الاجتماعي.. بدك (عليك أن) تبيعني منتجك»، وتابع حرصاً منه على عدم تحمل المسؤولية قائلاً: «أنا ملتزم بالعمل مع الجمعية لإيجاد السياق المناسب الذي يسمح للحكومة بتقديم الدعم المادي للجمعية بما يسهل عملها كذراع فكري تحليلي في الموضوع الاقتصادي لمصلحة الحكومة والمجتمع، وأؤكد: دون المس باستقلاليتها الفكرية».

وفي معرض حديثه المليء بمصطلحات غريبة عن الأذن السورية، من طراز «تبيعني منتجك»، أكد الدردري أن دور الحكومة في الخطة الخمسية العاشرة هو أهم وأكبر وأصعب وأعقد بعشرات المرات من دورها في اقتصاد التخطيط المركزي. وأن من يرى تجارب الفريق الاقتصادي في إدارة التحول الاقتصادي وما سيتبعها في مرحلة ما بعد التحول، سوف يعرف المعاناة الشديدة في تغيير دور الدولة بهذا الاتجاه وفي توفير إمكانية إدارة الاقتصاد الجديد من خلال الإشراف على إدارة دفة عملية التنمية، بدلاً من الإشراف على إدارة الموازنة الاستثمارية للدولة باعتبارها هي الاقتصاد الوطني وكل شيء آخر بواقي.. ورأى أن أسهل شيء في الدنيا أن نقول سعر كيلو البطاطا 7 ليرات وتحديد عمليات البيع والشراء بهذا السعر، فالأصعب بعشرات المرات هو إدارة سوق تنافسية للوصول بسعر البطاطا إلى نقطة تحقق أكبر تكافؤ في جانبي العرض والطلب. 

د. مرزوق: انظروا ما أصاب الصحة والتعليم ومستوى المعيشة

وبغية توفير البيئة الاستثمارية الملائمة، دعا الدردري إلى توفير ثلاث حريات أساسية؛ حرية تبادل وتداول السلع والخدمات، حرية تبادل ودخول وخروج رأس المال، وحرية أسواق العمل. وهذه الحريات هي ما تناوله د. نبيل مرزوق بالانتقاد مذكراً الدردري بأنها كانت السبب في وقوع العالم في الأزمة الاقتصادية وهي ما أوصل العالم إلى هذا القدر من التدهور.. «إن هذه الحريات الثلاث كانت السبب المباشر للركود الاقتصادي الذي بدأ منذ سنوات في أمريكا، وانتقل لاحقاً إلى كل دول العالم» و«أن هناك نهجاً اقتصادياً في سورية لا يحاول أن يرى أين الأزمة أو أن يرى أسبابها ليضمن عدم الوقوع فيها، وإن هذا النهج لا يحاول جدياً تجنيب البلاد كارثة حقيقية وأزمات فعلية يمكن أن تصيبها».. وقال مرزوق: «ليس معقولاً أن تبقوا مصرين، بشكل عقائدي جامد، دون محاولة لاستيعاب ما يحدث في العالم، وتقولون نريد هذه الحريات الثلاث. قفوا قليلاً وانظروا إلى أين قادت هذه الحريات النظام الاقتصادي العالمي، وما يمكن أن يترتب عليها لاحقاً».. مرزوق أكد أن معدلات الفقر ازدادت في سورية خلال السنوات الماضية بأكثر من نقطتين بالنسبة للشرائح الدنيا من المجتمع، كما ازدادت البطالة حيث كان مجموع الفرص الجديدة أقل مما خططت له الخمسية العاشرة، ونبه إلى أن هناك اتجاهاً متزايداً لتهديم قطاعي الصحة والتعليم عن طريق عدة وسائل منها السماح للقطاع الخاص بالتدخل في نمو وتطوير قطاع التعليم في الوقت الذي شهدت ديمقراطية التعليم تراجعاً كبيراً على المستوى العام، ولم يُعطَ أبناء الفئات الفقيرة فرصهم بالحصول على التعليم العالي. وأشار إلى أن هذه الفئات يتم استبعادها أكثر فأكثر حالياً، محذراً من الاتجاه بالتعليم نحو الانتقائية وإعطاء فرص أعلى لأبناء الشرائح المرتاحة مادياً.. ورأى أن ذلك يصيب قطاع الصحة أيضاً، منبهاً إلى تراجع مستوى الخدمات الصحية ومستوى ما يقدم للمواطنين بشكل عام، سواءً من حيث العلاج أم الطبابة المجانية.. 

قلاع: هل أنا قادر على شراء بيت من خمسين متراً لابني؟

أما الأستاذ غسان قلاع، فاستهل مداخلته بتذكير النائب الاقتصادي بالدعوة التي لم يلبها لحضور الندوة الوطنية التي خصصت لمناقشة آثار رفع الدعم رغم دعوته، الأمر الذي نفى الدردري علمه به حينها واعداً بأنه سيحضر أية «نعوة» (وردت الكلمة على لسان الدردري كزلة لسان قبل أن يصحح مستدركاً:) دعوة أخرى!. وتابع قلاع متسائلاً عن جواب قد يطرحه كثيرون من أبناء سورية: «هل أنا قادر على شراء بيت من خمسين متراً لابني»؟ داعياً إلى توضيح خطط الحكومة التنفيذية، وإطلاع كل المواطنين عليها في إشارة إلى احتكار المعلومة الذي تمارسه الحكومة دائماً، وأضاف: إن وجود برنامج إصلاح اقتصادي معلن يساعد جمعية العلوم الاقتصادية والعاملين في النشاط الاقتصادي على تقديم دراسات هادفة ضمن النقاط التي يشير إليها هذا البرنامج. وأكد قلاع على أهمية الأرقام والنسب المعلنة في عمليات الإصلاح الاقتصادي مركّزاً على أهمية ذلك بالنسبة للفرد، حيث قال: «تهمني هذه الأرقام والنسب حين أعرف كم غرام لحم تستطيع المئة ليرة في جيبي شراءها، وكم بيضة تستطيع أن تشتري، حينها فقط أشعر كمواطن بأن هذه الخطة قد أنجز فيها الجانب الإيجابي واستطاعت تحقيق ما يجب عليها تحقيقه».

ولعل أخطر ما قاله الدردري: «إن لدى المواطن الحق في الشعور بانخفاض القوة الشرائية، لأن راتب الموظف في القطاع العام يقسم اليوم على خمسة موظفين الذين بلغ عددهم في سورية مليوناً و400 ألف عامل وموظف، ورأى الدردري أن سورية لا تحتاج هذا العدد الكبير من الموظفين».. الأمر الذي لم يلق هجوماً مضاداً بما يكافئه، على الرغم مما يعنيه من نذر سيئة! 

د.سلمان: الرد على الأزمة المالية بدعم الإنتاج المادي

د. حيان سلمان قال: «لن أدخل في الخلاف الفكري حول حجم الدولة ودورها، لكن هناك فرق بين تدخل الدولة وحجم الدولة وطرق تدخلها (في إدارة الاقتصاد)، وأعتقد أن هناك فرقاً بين المفهومين.. وسأدخل في الأرقام، إن زيادة معدل النمو كانت في قطاع التجارة والتعليم وفي قطاع الخدمات، بينما تراجعت الزراعة والصناعة، والصناعة الاستخراجية تراجعت كذلك بـ17%، وماتزال الصناعات التحويلية تمثل 6.83% من حجم الناتج الإجمالي المحلي لعام 2007. هل تعلم أن الميزان التجاري السوري قفز بخسارة دراماتيكية هائلة من 25 مليار إلى 106 مليار ليرة سورية، أي بمعدل 401% بين عامي 2006 و2007، وأنا هنا لا أقيس مع سنة الأساس وإنما أقيس خلال سنتين فقط لاغير. تعلمنا أن نرد على الأزمة المالية بدعم الإنتاج المادي (الزراعة والصناعة)؛ لكن الزراعة تراجعت، وهذه بعض الأرقام التي قد تكون مخيفة؛ القطن تراجع من 1 مليون إلى 700 ألف طن ستقولون بسبب شح الماء، نعم، ولنترك الماء فنجد أن شقيق وحبيب القطن الزيتون الذي لا يحتاج الماء تراجع من 1191 إلى 465، والعنب والخضراوات والتفاح والفواكه تراجعت كلها، إذاً كيف سنواجه أزمة غذائية وأزمة مالية؟ ..إن مستورداتنا السلعية في 2007 من المشتقات النفطية نافت قليلاً عن 226 مليار، بينما نافت صادراتنا عن 218 مليار من المشتقات النفطية والعجز 6 مليارات، أنا لا أتحدث عن الصادرات النفطية لكن ماذا لو صنعنا المشتقات النفطية داخلياً أما كانت منحت صادراتنا قيمةً مضافة؟ وأنت تعلم أن دولاراً واحداً من القطن عندما يصنع يعطي 12 دولاراً من القيمة المضافة (الألبسة) أي 1200%، ناهيك عن التبغ الذي ظهر لي أن القيمة التي يمكن إضافتها تبلغ 1600%. 

الحقيقي وغير الحقيقي

ورداً على سلمان أكّد الدردري: أنه لا يرى أن المال والتأمين والمصارف هي إنتاج ريعي إلا أنها تقدم قيماً مضافةً عالية جداً، وقال الدردري «إذا كان تفكيرنا ما يزال محصوراً بأن (الإنتاج) الحقيقي هو ما نستطيع إمساكه باليد والقول عنه إنه حقيقي، فإن هذا الكلام لا يمت بصلة لما شهده الاقتصاد من تطور خلال خمسين عاماً، المشكلة ليست في الفرق بين الحقيقي وغير الحقيقي، بل المشكلة في حجم النقد وحجم الأوراق المالية في الاقتصاد..». وتابع الدردري: «أنا أسمع كثيراً أن قطاع التجارة ليس إنتاجياً وقطاع الصناعة إنتاجي، لكن كيف نبيع ما ننتجه مالم نعمل بالتجارة؟ لا نستطيع أن نلغي موقع سورية التاريخي والجغرافي، ويجب أن نستفيد منه ومن التنوع في الاقتصاد السوري بين زراعة وتجارة وخدمات وحرف ومهن». (!!!!)..

أنهى الدردري كلامه بالقول: «صلحونا.. أصلحوا اعوجاجنا إذا كانت سياساتنا معوجة، لا بأس في ذلك. أصلحوا اعوجاجنا يا جماعة إذا كانت سياساتنا معوجة!».