المعادلة الاقتصادية المعكوسة... القطاع الخاص أولاً
مازالت الجهات الوصائية تتفرج على شركات ومؤسسات القطاع العام تنهار واحدة بعد أخرى، دون إيجاد حلول على أرض الواقع، ودون التصدي لأية مشكلة كانت أو وضع سلم أولويات وإستراتجية واضحة يمكن من خلالها تشغيل المعامل الأقل استهلاكاً للقطع الأجنبي، والتي يمكن أن تؤمِّن موارد من خلال تأمين مستلزمات السوق المحلية من إنتاجها، بغية وقف الخسائر أو الحد منها على الأقل. لم توجِد حلولاً حتى الآن، وفشلت كل المشاريع التي طرحت للإصلاح.
في اقتصاد السوق «الاجتماعي» لم يتم رسم حدود واضحة ذات أفق استراتيجي لواقع القطاع العام ودوره، أي أن المعادلة اختلفت عكسياً في السنوات الأخيرة: إعطاء الدور الأهم للقطاع الخاص، وتجاهُل دور القطاع العام والمشترك والتعاوني. وهذا يعني أننا لم نستفد من الدرس، ولم يتم تقسيم العمل بين القطاعات في الخطة الخمسية العاشرة، وهذا ما دفع الجزء الأكبر من رأس المال الخاص إلى قنوات المضاربة والربا والتجارة بالعقارات والسمسرة والهجرة إلى الخارج.
وضعت أمام القطاع العام في الخطط الخمسية السابقة، وحتى الخطة التاسعة، المشروعات الكبيرة والإستراتيجية، ونجمت عنها خسارات لأسباب مختلفة، وتُرِكت المشروعات ذات الحجوم الصغيرة والمردود والربحية الكبيرة للقطاع الخاص، الذي راح يتغلغل في صناعات منافِسة للقطاع العام، وأُعطِي الضوء الأخضر لإقامة هذه الصناعات من إداريين وجهات وصائية، فعمل في صناعات اللمسات الأخيرة التي لا تخلق قاعدة صناعية بقدر ما تزيد الارتباط بالسوق الخارجية وتعيق وتعرقل عملية التنمية وتحاصر القطاع العام، وإذا كانت خسارات القطاع العام لأسباب اجتماعية، وهي معروفة وترددها الحكومة منذ تبني اقتصاد السوق «الاجتماعي»، فهذا يعني أن هذه الأسباب يجب أن تنتهي، وبما أن عهد الدولة الأبوية قد انتهى، فإننا نقول إن الخسارات ليست لأسباب اجتماعية فقط، إنما بسبب السياسات الاقتصادية.
القضية الأبرز التي يتم تجاهلها هي قضية الفساد الذي استشرى في كافة مفاصل شركات القطاع العام، دون مساءلة أو محاسبة، بل ويقف رئيس الوزراء أمام مجلس الاتحاد العام لنقابات العمال محملاً العمال مسؤولية الفساد لأنهم ممثَّلون في اللجان الإدارية في جميع الشركات، ولم يشر أي نقابي إلى قضية فساد. ومن المؤسف أنه لم يتلق رداً أو جواباً من مجلس الاتحاد، وهم فعلاً ممثَّلون في كل اللجان، بدءاً من رئيس الاتحاد العام الممثَّل في اللجنة الاقتصادية في القيادة السياسية، وهي المطبخ الاقتصادي لسورية، وصولاً إلى أصغر وحدة إنتاجية، ولكن بدأ المجلس أعماله بخطابات الأعضاء عن الفساد، ويبدو أن رد رئيس الوزراء كان مقنعاً! ونقول مقنعاً لأن للعمال وتنظيمهم النقابي دوراً هاماً في إدارة التجمعات الاقتصادية وفي تصريف أمورها، فللعمال في مجالس إدارات المؤسسات العامة وفي اللجان الإدارية للشركات العامة والمنشآت ممثلان اثنان في كل مجلس وكل لجنة، وفي اللجان الإدارية لشركات الإنشاءات العامة ممثل واحد في كل لجنة.
كيف انتشر الفساد إذاً؟ الوقائع تقول: إن في المؤسسات خللاً إدارياً ونقابياً، ويتمثل هذا الخلل في الأسلوب المتبع في تعيين الإدارات، وفي تعيين العمال في اللجان الإدارية، ولم يستطع النائب الاقتصادي حل هذه المعضلة لذلك طرح «فصل الإدارة عن الملكية» كمقدمة أولى للإصلاح الإداري، وهنا يستطيع النائب الاقتصادي محاسبة المدير الفاسد أو المقصر دون أن تمارس عليه الضغوط.
هكذا يتحدث النائب الاقتصادي، ولكنه لم يشر إلى دور البنك الدولي وصندوق النقد وتوجيهاتهما في حين كان واضحاً د.عامر حسني لطفي وزير الاقتصاد السابق، ورئيس هيئة تخطيط الدولة الحالي، في ورشة عمل للتعريف بالبنك الدولي عندما قال: هذا الاجتماع يشكل فرصة مهمة للتعرف بشكل عميق على هذه المؤسسة الدولية الهامة، بما يساعد في تبادل الأفكار والآراء حول سبل فرص تعزيز التعاون بين سورية والبنك الدولي في المجالات المختلفة، خاصة وأن سورية تسعى ضمن إطار توجهها بالانفتاح على العالم الخارجي لمد جسور التعاون والتواصل مع المنظمات الدولية الصديقة.
كلام السيد لطفي واضح لا لبس فيه، وفعلاً استبقنا شروط البنك الدولي، وقام الفريق الاقتصادي الحكومي بإجراءات هامة أبرزها:
ـ إبقاء القطاع العام للموت البطيء ولم تخصخصه كما يريد البنك الدولي.
ـ إلغاء الدعم، تحرير التجارة وتشجيع الاستثمارات في القطاع الخاص.
وكان هناك جملة تدابير أخرى يبدو أنها شجعت البنك الدولي على العمل في سورية، وحالياً نجد خبراءه في كافة الوزارات والمؤسسات، وأبرزها في وزارتي الشؤون الاجتماعية والعمل ووزارة الاقتصاد.
السؤال المطروح: هل تغيرت مهام البنك الدولي؟ وهل رضخ لشروط سورية؟
من المؤكد لا، خصوصاً وأننا على مدى عقود نطَّلع ونقرأ عن دور البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في ممارساتهما حيال البلدان النامية، وقد حدد البنك الدولي مفهومه للإصلاح الاقتصادي وملخصه: «تغييرات جذرية في نهج الدولة السياسي والاقتصادي والاجتماعي، بحيث تشمل هذه السياسة ديمقراطية سياسية وحرية اقتصادية».
السؤال المطروح على أرض الواقع: إلى أين يقودنا الفريق الاقتصادي الحكومي؟