من جرب المجرَّب فعقله مخرَّب.. استيراد الإسمنت.. تخسير منظم للقطاع العام
يبدو أن الصفعة الأولى التي أجبرت المؤسسة العامة للأسمنت على تخفيض أسعاره في الأسواق المحلية بنهاية العام 2009 لم تكن كافية لأخذ العبر، بفعل شدة المنافسة وتراكم المخزون لدى المؤسسة العامة للاسمنت، الذي وصل إلى أكثر من 100 ألف طن، مما حدا أيضاً بمؤسسة عمران للتفاوض مع جهات مختلفة لتصدير مادة الاسمنت إلى الخارج، بعد أن كان قرار فتح باب الاستيراد لهذه المادة سبباً في الوصول إلى هذا التراكم. وتطل علينا مجدداً اليوم مصادقة رئاسة مجلس الوزراء على اتفاق وزارتي الصناعة والاقتصاد بخصوص السماح باستيراد الاسمنت الأسود الفرط والمعبأ بأكياس بلاستيك، وكذلك الاسمنت الأبيض الفرط والمعبأ بأكياس بلاستيكية، وذلك لتكرار تجربة مأساة الماضي القريب..
استهلاك.. وإمكانات
تستهلك سورية سنوياً ما يقارب 7 مليون طن من الأسمنت، ويؤكد مدير عام المؤسسة العامة للأسمنت المهندس عدنان عفارة أن خطة إنتاج المؤسسة بلغت عام 2009 ما يقارب 5,6 مليون طن من الاسمنت سنوياً، بينما ستبلغ خطة الإنتاج للعام الحالي 5,8 مليون طن.. هذا ما ستنتجه شركات القطاع العام العاملة في مجال الإسمنت، وهي ست شركات: اسمنت عدرا، معمل اسمنت الرقة، معمل اسمنت طرطوس، شركة اسمنت حماة، الشركة العربية لصناعة الأسمنت، وشركة الشهباء.
أما بالنسبة للقطاع الخاص، فإنه يتهيأ للبدء بالإنتاج الفعلي بعد أشهر قليلة، فشركة «اسمنت البادية» ستبدأ تجارب التشغيل في أيلول القادم، بطاقة إنتاجية سنوية ستصل إلى 3,2 مليون طن، وكذلك الشركة «السورية للأسمنت» بطاقة إنتاجية تبلغ 2 مليون طن سنوياً قابلة للزيادة في مراحل لاحقة إلى 3 مليون طن.. أي أن الأشهر القليلة القادمة ستشهد تطوراً في إنتاج مادة الاسمنت المحلي يصل إلى 9 مليون طن سنوياً، ستعجز بعدها السوق المحلية عن استيعاب ما ينتج من الاسمنت، مما يحتم علينا ضرورة البحث عن سياسة تسويقية وتصديرية لتصريف فائض الإنتاج الوطني في المستقبل القريب بدلاً من السعي لفتح السوق المحلية أمام المنتج المستورد عبر قرار فتح باب الاستيراد على مصراعيه ..
تراكم المخزون
تشير أرقام مؤسسة عمران إلى تراكم مئات آلاف أطنان الإسمنت المحلي المنتج في معامل الإسمنت السورية لدى مستودعات مؤسسة عمران المنتشرة في عدد من المحافظات السورية، وتقدر قيمتها بمليارت الليرات السورية، حيث إن معظم الكميات المتراكمة باتت مهددة بانتهاء فترة الصلاحية، مما حدا بالمؤسسة السعي لإيقاف الاستيراد مادة الاسمنت مؤقتاً.. فلو أن السوق المحلية بحاجة للاسمنت فعلياً لما تراكم الإنتاج في مستودعات مؤسسة عمران، كما أن تراكم الإنتاج الوطني من الاسمنت في المستودعات المترافق مع استجرار الاسمنت المستورد من الخارج بحجة حاجة السوق، يضع علامات استفهام كبرى حول أسباب الاستغناء عن المنتج الوطني واستبداله بالمستورد، والذي لم نجد له سوى إجابة واحدة وهي غلاء أسعار الاسمنت المحلي مقارنة بأسعار نظيره المستورد أو المهرب من الخارج!..
المستورَد أرخص
كل المتعاملين في المجال العقاري سواءً التاجر الكبير أو المواطن العادي باتوا يستخدمون الاسمنت المستورد بدلاً من الوطني، وتبريرهم الدائم عند سؤالهم عن أسباب هذا الاستبدال: «المستورد أرخص»، وهم محقون في ذلك، حيث وصل سعر الطن الواحد من الاسمنت المنتج والمباع محلياً إلى 6 ـ 7 آلاف ليرة سورية، بينما لم يتعد سعر مبيع الطن الواحد من الاسمنت المستورد الـ5 آلاف ليرة سورية، فما هي أسباب هذا الفرق الكبير نسبياً بين أسعار الاسمنت المحلي ونظيره المستورد؟!
إن تفصيلات تكلفة سعر طن الاسمنت المعتمد في سورية تؤكد أن هناك ضريبة تقدر بـ1400 ليرة سورية تفرض على كل طن من الاسمنت، وهي تشكل ثلث التكلفة الإجمالية البالغة 4669 ل.س، بينما يباع الطن فرط بـ5610 ل.س، وبالأكياس بـ5814 ل.س، أي أن سعر الطن دون الضريبة سيكون 3269 ل.س، وبالتالي فإن فرض ضريبة كبيرة نسبياً على طن الاسمنت، والسماح مقابلها باستيراده يعني تجريد الاسمنت الوطني من أية قدرة تنافسية، وبالتالي دق المسمار الأخير في نعش شركات إنتاج الاسمنت الحالية، العامة منها تحديداً، وإجبارها على الخسارة، وذلك لإيجاد المبرر المستقبلي (غير رابحة) لخصخصتها، كما يجري اليوم مع 14 شركة صناعية عامة. وبعدها يتم البدء بعمليات الخصخصة لهذه الشركات واحدة تلو الأخرى. وبعد أن يصبح إنتاج الاسمنت بيد المستثمرين يبدؤون المطالبة بتخفيض الضريبة إلى الحد الأدنى أو بإلغائها، على اعتبارها العائق أمام المنتج الوطني، واعتبار تكلفة إنتاج طن الاسمنت مقارنة بالبيع غير مجدية، ولا يستغرب أن تكون مؤسسة الاسمنت التي ستلعب وقتها دور المشرف دون أن يكون لها دور الإنتاج المطالب الأول بتخفيض الضريبة الحالية.
أما عن دخول الاسمنت الأجنبي بأسعار منافسة ليغرق السوق السورية ويسيطر عليها، فهذا يحتم بالتالي على الجهات المعنية اتخاذ إجراءات وقوانين لمنع الإغراق، وهو ما تتبعه كافة دول العالم حفاظاً على إنتاجها.
القرار.. من يخدم؟!
تراكم أطنان الإسمنت المحلي في جميع مستودعات مؤسسة عمران.. أسمنت مستورد أرخص من نظيره العالمي بـ20%.. سوق عقارية تشهد ركوداً في حركتها وخصوصاً في مجال بيع العقارات منذ عدة أعوام.. قرار حكومي يسمح باستيراد الاسمنت.. أربع مقدمات متناقضة في عموميتها ومعقدة في تفصيلاتها لأنها توحي بمؤشرات مختلفة لا تنسجم مع بعضها، فالاستيراد يعني زيادة في الطلب، أما تراكم المخزون والركود العقاري فإنهما يفترضان ضعف الطلب الذي تؤكده السوق العقارية، وبالتالي ففتح باب الاستيراد له نتيجة واحدة وهي إغراق السوق السورية خلال المستقبل القريب بالاسمنت المستورد، هذا الإغراق الذي سيؤدي إلى ضرب المنتج الوطني بكل تأكيد.. تجربة الماضي القريب ـ قبل عام تقريباً ـ لم ننسها بعد، حيث أدى إصدار قرار فتح باب الاستيراد المترافق مع ركود السوق العقارية إلى تراكم المنتج المحلي في المستودعات، وإغراق السوق السورية بالمنتج الأجنبي المستورد..