استهداف الكرملين ومحاولات جرّ روسيا لتصعيد نووي

استهداف الكرملين ومحاولات جرّ روسيا لتصعيد نووي

يعلن استهداف الكرملين الروسي بطائرتين مسيرتين مساء الأربعاء الماضي، بدء مرحلة جديدة من التهوّر الأمريكي- الأوكراني، ويفتح احتمالات تصعيد خطيرة للغاية، تهدف بجزء رئيسي منها إلى استجرار موسكو للقيام بردّ نووي ما.

تسير المعركة في أوكرانيا بتباطؤ شديد، وباتت الأخبار الميدانية من تحرير وسيطرة، كرّ وفرّ، ضرب واستهداف، مقتل جنود من مختلف الأطراف وغيرها من الأخبار، تعبّر عن حالة سكون نسبي في الصراع العسكري، على العكس مما توحي به الأنباء اليومية من معارك طاحنة تجري.
يُرجع بعض المحللين العسكريين والسياسيين هذا السكون، وعدم حسم أي من الطرفين الصراع عسكرياً، إلى مسألة التوازن بين القوات الروسية والقوات الأوكرانية المدعومة من الغربيين. لتبالغ هذه التحليلات أساساً بالجانب العسكري للقضية على حساب تقزيم الجانب السياسي والاقتصادي بين روسيا والغربيين من جهة، وتقزيم الجانب السياسي على المستوى الدولي ككل، من تغيّرات وتبدلات جرت وتجري من جهة أخرى، أي رفع الجانب العسكري من الصراع إلى مستوى أكبر منه، مما يؤدي إلى تفسيرات مغلوطة تغطي على حقيقة الأحداث.
منذ ما قبل بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وحتى اليوم، لا يزال الخبراء العسكريون يؤكدون أن بمقدور روسيا، وخلال فترة سريعة، تحرير كييف بالكامل. لن يجري ذلك دون معارك طاحنة وخطيرة بطبيعة الحال، إلا أنّ ما يشار إليه هو القدرة عسكرياً بذلك، ليبرز التساؤل: لماذا لم يجرِ ذلك حتى الآن؟

مرحلتان أولى وثانية

أهداف العملية الروسية كانت واضحة ومحددة، حماية أمنها القومي بوجه التوسع العسكري للناتو، وتحديداً من احتمالية انضمام أوكرانيا إلى التحالف، وكانت مسألة إقليم دونباس حساسة فيما يتعلق بالتوتير الأمني على الحدود الروسية، فضلاً عمّا يرتبط بالمنطقة شعبياً وتاريخياً، ومن الناحية العملية كان يعني ذلك تحييد أي تهديد عسكري بإمكانه الوصول إلى داخل الأراضي الروسية، على بعد مسافة محددة من حدودها، لتنطلق العملية وتؤمن هذا الهدف عبر تحرير جملة من المناطق.
كانت العملية العسكرية الروسية بنفسها قد تمّت بعد استفزازات غربية متعمّدة تجاه موسكو، عنوانها الأكبر: انضمام أوكرانيا للناتو، واحتمالات نشر قوات له فيها، بما يهدد الأمن القومي الروسي، وكان قد اعترف بعض الأوروبيين، بما فيهم المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، أنه لم يكن لدى الغرب أية نية لحل الملف الأوكراني وتنفيذ اتفاقات مينسك، بل كان يسعى للتحضير للحرب، قبل سنوات من بدئها.
بعد انطلاق العملية الروسية، وتحقيق أهدافها عملياً بتحييد التهديد العسكري على بعد مسافة محددة بعد تحرير جملة من الأراضي، أدى الدعم العسكري للقوات الأوكرانية، بما فيها توريد أسلحة وتقنيات عالية ومتطورة، ومنظومات دفاع ذات مدى أكبر، إلى استفزاز جديد لموسكو، وُضعت على إثره أهدافاً جديدة أوسع. أي عملياً توسيع رقعة الصراع العسكري وتصعيده.
راهنت موسكو، وما تزال- كما تراهن الصين، وحلفائهم، بالمعنى الاستراتيجي- على عامل الوقت بمضاعفات الأزمة الاقتصادية الغربية، وما تولده من أزمات سياسية، وعلى تطور التغيّرات الدولية الجارية عموماً، بما يضعف الوزن الأمريكي والغربي، ويشلّ قدرته على إشعال أزمات جديدة أو تصعيد الأزمات الجارية، بالمقابل، تسعى واشنطن بكامل استطاعتها إلى توسيع رقعة الحرب والتوترات بأسرع ما يمكن، واستناداً لقدراتهم وإمكاناتهم بالظرف الحالي، بمشروع يسعى لتوتير وتفكيك روسيا نفسها داخلياً، وتنفيس أزمة الغربيين بذلك.
يمكن فهم حالة السكون النسبي على الجبهة العسكرية ضمن هذا السياق، بأنه يخدم المصالح الروسية بعيدة المدى، ويخسر الأمريكيون على إثره يومياً في معركة «كسر عظم»، فخلال فترة العملية العسكرية نفسها على الأقل، تطور وزن التكتلات والمجموعات الدولية بشكل كبير، من مثل بريكس وشانغهاي، وتسارعت مؤخراً تحركات التخلي عن الدولار بالمبادلات والتسويات التجارية دولياً، سواء ضمن تكتلات، أو في العلاقات الثنائية بين بلدين، وتقلّصت قدرة الأمريكيين بدرجة كبيرة على إمكانية التحكم والتأثير بأسعار النفط عالمياً، وبدأت بعض البنوك والشركات بالإفلاس، وجرت أحداث وتطورات سياسية أبعدت الهيمنة الأمريكية، وقلّصت من نفوذها الجيوسياسي من مثل: الاتفاق السعودي- الإيراني بالتعاون مع الصين مثلاً، أو بخسارة واشنطن للبرازيل كمثال آخر من الكثير غيرهم.

المرحلة الثالثة: التهوّر الخطير ودلالاته

ليأتي استهداف الكرملين عسكريا عبر مُسيّرتين يوم الأربعاء الماضي ضمن هذا السياق، وهذه الظروف، وبنفس الأهداف الأمريكية: استفزاز متعمّد لموسكو، ومحاولة استجرارها لتصعيد ميداني أكبر.
يكمن خطر استهداف الكرملين الأخير، بما حمله من تهديد على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بأنه يمس العقيدة العسكرية والخارجية الروسية مباشرةً، وتحديداً منها: ما يقتضي بالردّ النووي على أية محاولة اعتداء على الأراضي الروسية من جهة، وعلى الرئاسة من جهة أخرى. أي أنه مرحلة ثالثة أكبر وأخطر، تشابه المرحلتين السابقتين اللتين أدتا إلى بدء العملية العسكرية أولاً، وتوسيع أهدافها ثانياً.
محاولة استفزاز موسكو بهذا الشكل، ولهذا الهدف العسكري، يتجاوز الجانب العسكري نفسه ككل، فهو- إن جرى من وجهة النظر الأمريكية- يؤدي إلى رصّ صفوف الغربيين بدرجة أكبر سياسياً، ويمنح ذريعة أكبر بقمع أية توجهات مخالفة لهذا النهج على غرار الانقسام الأمريكي وتيّار الانكفاء، ويؤدي إلى ردّ فعل دولي سلبي تجاه موسكو، ومن ضمن الأخير تحديداً ردّ فعل سلبي من بكين بما يؤمن الطموح الأمريكي بحصول شقاق صيني- روسي، تعبث بتناقضاته.
تدرك روسيا، والصين، والمجتمع الدولي عموماً هذه الاستراتيجية وأهدافها، ولا يزال الردّ الروسي على استهداف الكرملين قيد التحضير، قد يجري أو لا يجري، إلا أن إشارته ظهرت بما تحدث به نائب رئيس مجلس الأمن الروسي ديميتري ميدفيديف: «لم يتبق سوى التحييد الجسدي لزيلينسكي وعصابته، فلا حاجة له حتى لتوقيع قرار الاستسلام غير المشروط» بينما لم يجر الحديث حتى الآن عن أيّ ردّ نووي.
كما أن خطر استهداف الكرملين يكمن بدلالاته المرتبطة بواشنطن واستفزازاتها فيما يتعلق بالمرحلة المقبلة ككل، فمثل هذا التهوّر قد يعبّر عن خطوة أولى من العديد غيرها تهدف للغاية نفسها: ردّ نووي روسي.
إلا أنه وفي الوقت نفسه، يعبّر مباشرةً عن درجة عالية من الضعف والخوف داخل واشنطن نفسها، ويوضح أن النخبة الأمريكية تشعر أنها دخلت مرحلة جديدة من التراجع والانهيار المتسارع والمحسوس مما يدفعهم لمثل هذا التهوّر.

المعادلة نفسها

رغم ذلك، تبقى المعادلة على ما هي عليه: مدى قدرة الأطراف الدولية الصاعدة- ليس روسيا وحدها فقط، وإن كانت المستهدف الرئيسي حالياً- على ضبط النفس والمناورة مع عامل الوقت، بما يتضمنه من استفزازات عسكرية وسياسية واقتصادية غربية عموماً، وأمريكية خاصةً، سواء في أوكرانيا أو تايوان أو الشرق الأوسط أو العقوبات أو الخ، ريثما تفرض الأزمة الغربية بعد كل تراكماتها المتسارعة الجارية حالياً، من تراجع عسكري واقتصادي وسياسي دولي وانعكاساتها على الداخل الأمريكي، بانفجارات وتبدلات داخلية تنهي، على الأقل، المشروع الأمريكي، وقدرة واشنطن والغربيين على القيام بأية تحركات، أو حتى تصريحات استفزازية جديدة أساساً، إن لم تُنهِ الدول نفسها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1121
آخر تعديل على الثلاثاء, 09 أيار 2023 10:55