كيسنجر وحراس العالم القديم
يشتد التوتر العالمي يوماً بعد آخر، ويسيطر الخطاب التصعيدي على مجمل التصريحات، وفي معظم ساحات الاشتباك، الحامية منها أو تلك التي يجري تحضيرها للمرحلة القادمة، وفي ظل هذه الصورة القاتمة تُجري الدول الغربية اجتماعات لرسم خطواتها التالية، وهي ما وجد فيها كيسنجر فرصة جديدة للتعبير عن آراء التيار الذي ينطق باسمه منذ بدء المواجهات العسكرية في أوكرانيا.
لا تزال التحضيرات والمناقشات -حول سُبل تأمين العتاد العسكري الضروري لأوكرانيا- متعثرة، فرغم إعلان عدد من الدول استعدادها لإرسال شحنات من هذا العتاد والذخائر، إلا أن ما جرى تأمينه حتى اللحظة لا يعتبر كافياً لتنفيذ طموحات عرّابي الحرب في واشنطن، هذا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن القوات الأوكرانية لن تستلمها فوراً، ولن تكون قادرة على تشغيل بعضها إلا بعد تدريب قد يستغرق بضعة أشهر ما يمكن- إن صحّت هذه التقديرات- أن يؤخر أي هجوم مضاد من الجانب الأوكراني.
تصريحات بعض القادة والسياسيين الغربيين- كيسنجر على رأسهم- وما تلاها من ردود روسية يمكن أن تساعد في فهم المشهد بشكل أدق، لا بتفاصيله العسكرية فحسب، بل في جانبه السياسي الحاسم أيضاً. ويمكن بداية- وقبل الإشارة إلى ما قاله مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق- أن نستعرض معاً تطور تصريحاته التي اتسمت بتناقضات صارخة في بعض جوانبها، لكنها سعت للوصول إلى نتيجة محددة، وهي إيقاف عملية تغيير النظام العالمي الحالي.
كيسنجر في خط زمني
تتلقى تصريحات هينري كيسنجر الكثير من الضوء، رغم أنه لا يشغل منصباً رسمياً معلناً، ولكن تاريخه ودوره الكبير في رسم السياسات الأمريكية كان يشير بوضوح إلى أنه يُعبر عن جزء من النخبة المالية، والدولة العميقة في أمريكا. ويمكننا هنا أن نستعرض أهم «المبادرات» التي سبق أن تقدّم بها. وكانت أُولاها: تلك التي طرحها في مؤتمر دافوس في العام الماضي، ومهرجان فايننشال تايمز خلال شهر أيار 2022، وكان جوهر ما عرضه كيسنجر، هو أن الوضع الجيوسياسي العالمي سيشهد تغيراً كبيراً بعد الحرب الأوكرانية، وأن هناك ضرورة للتوجه نحو مفاوضات سلام خلال فترة محدودة لا تتعدى الشهرين، قبل أن تبدأ «العواقب والصعوبات» حسب وصفه، والأكثر من ذلك، افتراضه بأن على أوكرانيا أن تتنازل عن أراضٍ لروسيا بهدف وقف الحرب، وأن يضمن الغرب وضعها كبلد محايد، وجسر بين روسيا وأوروبا، وهي الفكرة التي عبر عنها في مقاله المنشور في جريدة واشنطن بوست منذ العام 2014. لم يتأخر «ثعلب الدبلوماسية الأمريكية» في تقديم تصريحات متناقضة تماماً، والتي أدلى بها في شهر تموز 2022 إلى القناة الألمانية ZDF، حيث قال نصاً: «التخلي عن الأراضي الأوكرانية لا يمكن أن يكون شرطاً يمكن قبوله». ثم عاد مجدداً ليؤكد في مقالته المنشورة في 17 كانون الأول 2022 على صفحات «ذا سبكتيتور The Spectator» البريطانية عكس ذلك، وليعود تقريباً إلى طرح يشبه في إطاره العام مبادرته الأولى! فخلص إلى أن ينسى الغرب موضوع شبه جزيرة القرم نهائياً، وتُعاد الاستفتاءات التي جرت على الأراضي الأوكرانية، لكن بإشراف الأمم المتحدة هذه المرة، وتحت حق تقرير المصير. لكن ما أضافه هو ضرورة التمسك بانضمام ما يبقى من أوكرانيا إلى حلف الناتو، أي أنه تراجع عن ضرورة بقائها كجسر محايد بين أوروبا وروسيا، لا بل تحويلها إلى رأس حربة لحلف شمال الأطلسي.
دافوس مجدداً
منذ أيام، وأثناء دورة منتدى دافوس الجديدة، أطلّ كيسنجر مجدداً ليدخل تحديثات على ما قدمه من أفكار، فحافظ هذه المرة على ضرورة ضم بقايا أوكرانيا إلى الناتو، مشيراً إلى ضرورة الوصول إلى وقف لإطلاق النار على خطوط التماس الحالية، والبدء في مفاوضات تهدف إلى معالجة جملة من المسائل، منها مثلاً: إمكانية إعادة رسم خرائط جديدة تحصل بموجبها روسيا على أجزاء من الأراضي الأوكرانية الخاضعة لسيطرتها، وذكّر في مداخلته هذه بمخاطر محاولة إلحاق هزيمة بروسيا، ما قد يتحول إلى حرب نووية عالمية، أو انهيار الاتحاد الروسي وتفتيته إلى مجموعة من دويلات سترث ترسانة نووية ضخمة، وهو ما أسهب في الحديث عن مخاطره في مقال ذا سبكتيتور المشار إليه سابقاً. لكن ما قاله في المنتدى الاقتصادي العالمي، ونبّه أيضاً إلى مسألة جوهرية ينبغي التوقف عندها، وهي إصراره على «إعطاء روسيا فرصة للانضمام مجدداً إلى النظام الدولي بعد أي اتفاق سلام في أوكرانيا» وهو حجر الأساس والموجود ضمنياً في مجمل أغلب تصريحاته حول المسألة.
تحاصص أم نظام عالمي جديد؟
ينطق كيسنجر كما أشرنا سابقاً باسم جزء من النخب المالية الأمريكية والعالمية، التي ترى واحداً من احتمالين، الأول: هو أن تجد روسيا نفسها مضطرة وتحت الضغط الغربي الشديد لا لصد هذه الهجمات فحسب، بل وتوجيه ضربات كبرى معاكسة بمساعدة من حلفائها ضد كل أسس النظام العالمي الحالي، المثبتة والمحمية من قبل الإمبريالية الأمريكية، ما يؤدي إلى تقويض هذا النظام العالمي، وهو ما يمكننا رصد مؤشرات حوله، أهمها: الاشتباك الروسي مع حلف الناتو والذي يُعد الذراع الضاربة لواشنطن والنادي الغربي، والذي تحوّل مع قائمة حلفائه خارج أوروبا إلى عصا اعتمدت عليها الولايات المتحدة في تثبيت مصالح طغمتها المالية فوق مصالح شعوب الأرض. والمثال الآخر على تقويض أساس الهيمنة الأمريكية: هو عملية استبدال الدولار الجارية والمتسارعة، والتي تتم بصيغة توافقية بين مجموعة من الدول الكبرى، كالصين والهند وروسيا مدعومة بتعاون مع قوى ذات وزن وتأثير حاسم في مصير البيترودولار، كدول الخليج، بالإضافة إلى قوى اقليمية مؤثرة، ما يعني في المحصلة حرمان الإمبريالية الأمريكية من أداة نهبها الأساسية. وهو ما يفسر جوهر مبادرات كيسنجر القائمة على تقديم تنازلات لروسيا، وإلغاء فكرة تفتيها والتنازل لها عن حصة ما كافية بهدف تحويلها إلى شريك في هذا النادي، بدلاً من أن تقوضه من الخارج.
إذا كان تقويض أسس «النظام الدولي الحالي» من قبل روسيا وحلفائها هو الاحتمال الأول الذي يخشاه كيسنجر ومن ينطق باسمهم، فالاحتمال الآخر لا يقل خطورةً بالنسبة لهم، فالمركز الرأسمالي العالمي يعاني من أزمة عاصفة، فالدخول في مواجهات طويلة الأمد يمكن أن تسبب استنزافاً حاداً في موارد لم تعد متوفرة كالسابق، ما يعني أن انهيار هذه المنظومة من الداخل هو احتمال ذو حظوظ مرتفعة، فحجم الأزمة قد لا يظهر واضحاً بالنسبة لكثيرين، ولكن أولئك المأزومين يدركون حجم الكارثة. فالآجال الزمنية التي تحدث عنها كيسنجر منذ البداية، والتي جرى تفسيرها من الزاوية العسكرية- أضيق زواياها- كانت في الواقع تحذيراً من اقتراب نفاذ الوقت، وتأكيداً على أن مدة صلاحية هذه المخططات محدودة أكثر مما يعتقد البعض.
ما دفع كيسنجر لتقديم كل هذه الاقتراحات والمبادرات ما هو إلا تعبير جدّي عن حجم الأزمة، فالصراع الجاري لن يكتفي بإحداث تغييرات جيوسياسية كبرى، بل تغيير ملامح النظام القديم، وهو ما يدركه حراسه الذين- وبغض النظر عن اصطفافاتهم الحالية- يعملون في عكس اتجاه حركة التاريخ، أو في أحسن الأحوال يحاولون تأخير القادم المحتّم.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1106