الإطاحة بكاستيلو كانت شرارة أطلقت غضب ثلاثين عاماً مضت في البيرو
يتظاهر البيروفيون بشكل يوميّ منذ السابع من شهر كانون الأول 2022 عقب عزل الرئيس بيدرو كاستيلو وتكليف نائبته دينا بولوراتي بمهام الرئاسة بدلاً عنه، وارتفعت مطالبهم من الإطاحة ببولوراتي إلى إجراء انتخابات برلمانية ثم لإعلان دستور بلاد جديد.
ما يجري في البيرو حالياً يمكن وصفه بموجة احتجاجات شعبية واسعة على نطاق البلاد بأسرها، راح ضحيتها حتى الآن قرابة 50 قتيلاً، بالإضافة لآلاف الموقوفين والمعتقلين. لكن ما يتم تداوله عبر وسائل الإعلام والمواقع الإخبارية والتحليلية يختزل الأمور إلى حدود كاستيلو وبولوراتي، بمناصريهم ومناهضيهم، أو الصراع بين «اليسار واليمين» وفقاً لمقاييس المحللين البيروفيين أو حتى الغربيين عموماً، إلا أن حالة الاستقطاب الناشئة في البلاد، وحقيقة الصراع عملياً يرتبطان بقضايا أعمق وأكثر جذرية من مسألة رئاسة البلاد، ليكون هذا الأمر مجرد رأس جبل الجليد والشرارة التي أطلقت الاحتجاجات.
جذور الأزمة
يتفق أغلب المحللين البيروفيين، أن الأسباب والجذور الرئيسية خلف الصراع الجاري اليوم تعود إلى ثلاثين عاماً مضت، وهو نتيجةً لها، ويتعلق الأمر تحديداً مع توطيد النيوليبرالية في البلاد، وتثبيتها كدولة تابعة بعد انقلاب 5 نيسان 1992 بوصول نظام ألبيرتو فوجيموري، والذي وضع في عام 1993 دستوراً جديداً للبلاد لا يزال سارياً حتى اليوم، ويتفق البيروفيون كذلك على أن هذا الدستور مفصّل لصالح الملّاك ورجال الأعمال ورأس المال، وعلى حساب مصالح العمال والفلاحين والحرفيين.
تدهورت أحوال الشعب البيروفي عموماً خلال هذه العقود الثلاثة، بتدني المستوى المعيشي وارتفاع نسب البطالة وغلاء أسعار مختلف السلع، من بينها المحروقات وغيرها من الأمور المرافقة لأي نظام نيولبيرالي عموماً، ومعه ارتفع مستوى الاحتقان الشعبي وعمّت حالة عدم الرضا، إلا أن ما جرى خلال هذه العقود الثلاثة تضاعف وتسارع بشدة خلال العامين الأخيرين، مع وباء كورونا وإغلاقاته، التي كانت غطاءً مؤقتاً يخبئ خلفه أزمة اقتصادية رأسمالية عالمية، تضرب أول الأمر دول تلك الأنظمة التابعة.
أحد المؤشرات الاجتماعية الرسمية على العامين الماضيين– رغم قلّة هذه المؤشرات لدى هكذا أنظمة– ارتفاع نسبة العمال غير الرسميين في البلاد، أي العاملين بالأسود بلا عقود أو حقوق، فوفقاً لمؤسسة ComexPerú حصلت زيادة 17.2% بين عامي 2020 و2021 في العمال غير المسجلين رسمياً، ليصل العدد لأكثر من 13 مليوناً، أو 70% من السكان النشطين اقتصادياً. ومن ناحية أخرى، تعرض الفلاحون الريفيون في البلاد لأزمة كبيرة خلال العام الماضي، جراء انخفاض أسعار منتجاتهم، نتيجةً لارتفاع أسعار المحروقات بالتوازي مع استيراد السلع الزراعية بشكلٍ أكبر. وذلك فضلاً عن أحوال السكان الأصليين في البيرو المتميزة بالفقر والعنصرية تجاههم عموماً، لدرجة أنه لا تزال هناك «محميات» لقبائل من السكان الأصليين الذي لا تربطهم صلة مع «العالم الخارجي»!
كاستيلو رمزاً للفقراء والريفيين والسكان الأصليين
فاز المدرّس الريفي بيدرو كاستيلو برئاسة البيرو في عام 2021، أي بذروة الأزمة الاقتصادية في حينه، حاملاً جملةً من المشاريع والوعود الاقتصادية والسياسية، التي صوت لها الناخبون في الجولتين الانتخابيتين، كان منها: الحاجة إلى تغيير دستور عام 1993 وتحسين ظروف العمل، وإعادة بعض الشركات للدولة وغيرها.
إلا أن كاستيلو لم ينفذ شيئاً من مشروعه خلال فترة رئاسته، بصرف النظر عمّا إذا كان ذلك نتيجة ضغوط وإعاقات فعلية أو لأسباب ذاتية، وعلى العكس من ذلك، كانت نتيجة حكوماته الخمس استمرار العمل بسياسات التقشف في البلاد، وتحولت اللهجة إلى «إجراء تغييرات من الداخل» بالطريقة «الإصلاحية».. إصلاح المنظومة نفسها، ثم انزاح أكثر تجاه اليمين لدرجة وصف منظمة الدول الأمريكية المؤيدة للعديد من الانقلابات في أمريكا اللاتينية بـ «شريان الحياة»، إلا أن ذلك لم ينقذه من الصراع مع اليمينيين، الذين بدأوا معركتهم تجاهه منذ يومه الأول في الرئاسة، وبتهم مختلفة من الفساد إلى الجريمة المنظمة التي تحمل طبيعة إعلامية تؤثر على الرأي العام، وصولاً إلى ذروة الصراع في 7 كانون الأول، حينما أعلن كاستيلو حلّ البرلمان، إلا أن الأخير قرر عزله خلال جلسة تصويت بنفس اليوم، وتم اعتقاله.
بالنسبة لعموم البيروفيين وتحديداً في المناطق الريفية والسكان الأصليين، كان كاستيلو رمزاً لهم، كمدرّس وريفيّ يصل إلى رئاسة البلاد، بصرف النظر عن وعوده ومشاريعه التي لم ينفذها، أو لم تسنح له الفرصة بذلك، أي أنه برمزيته لا بشخصه كان بصيص أمل لدى أغلبية السكان بالمضي نحو حياةٍ أفضل، وكان المساس بهذا الأمر الشرارة التي أطلقت غضب الثلاثين عاماً الماضية.
الموجة الشعبية والصراع الجاري
تجري المواجهة الآن بين البيروفيين والحكومة اليمينية برئاسة بولوراتي، التي أعلنت حالة الطوارئ في البلاد، مما يعني تدخل الجيش والقوات الأمنية لقمع المتظاهرين. طالب المحتجون بدايةً بالإطاحة ببولوراتي وعودة كاستيلو، لكن سرعان ما وصلت المطالب خلال شهر إلى حل مجلس النواب وتغيير دستور البلاد. إلا أن أية مطالب كانت تتطلب أولاً: وجود تنظيم يحتويها وقادر على فرضها، أو على الأقل الحوار والمناورة لأجل تنفيذها، وهو ما يفتقر البيروفيون إليه الآن.
ففضلاً عن أن المواجهة تجري مع حكومة بولوراتي اليمينية، وتقف خلفها الولايات المتحدة كذلك، والتي أعلنت خارجيتها في وقت سابق، أن الوزير أنطوني بلينكن وخلال مباحثاته الهاتفية مع «رئيسة» البيرو دينا بولوراتي شجع «السلطات المدنية والمؤسسات في البيرو على مضاعفة جهودها لبدء الإصلاحات اللازمة وحماية الاستقرار الديموقراطي» وهو ما يعني عملياً منح حكومة البيرو غطاءً أمريكياً لقمع الحركة الناشئة، ومضيفاً «الولايات المتحدة تتطلع إلى العمل بشكل وثيق مع الرئيسة بولوارتي بشأن الأهداف والقيم المشتركة المتعلقة بالديموقراطية، وحقوق الإنسان والأمن ومكافحة الفساد» والذي يعني تزكية لبولوراتي تحديداً ودعمها بمواجهة تيار كاستيلو المتهم بالـ «فساد».
في سياق اللاتينية
تنقسم آراء المتتبعين للمجريات في البيرو حول من الذي أجرى الانقلاب؟ فبالنسبة للبعض كان إعلان كاستيلو حل البرلمان محاولة «انقلاب» وبالنسبة لآخرين كان قرار البرلمان بعزله «انقلاب»، وترجع الإجابة عن هذا السؤال، وانقسام الآراء، إلى مواقف أصحابها لا من كاستيلو بعينه، وإنما من الولايات المتحدة بليبراليتها و«ديمقراطيتها»، فمن يرى بمحاولة كاستيلو حل البرلمان انقلاباً، يعتبر الإطاحة بإيفو موراليس في بوليفيا انتصاراً للديمقراطية كذلك، ويرى في احتجاجات البرازيل ضد لولا دا سيلفا تعبيراً ديمقراطياً أيضاً.
ما حصل في البيرو لا يمكن فصله عمّا يجري في عموم القارة اللاتينية من انقلابات وتنقلات سريعة من اليمين إلى اليسار وبالعكس، وبذلك لا يمكن فصله عن مصلحة الولايات الأمريكية بهذه التوترات ودورها خلف هذه الانقلابات أيضاً، كما أن ما يجري في اللاتينية عموماً، وبكل دولةٍ منها على وجه الخصوص، يتوافق على ضرورةً واحدة مشتركة: إنشاء تنظيم سياسي يؤطر ويوحد الحركة الشعبية ومطالبها ويعبّر عنها، وأن يكون يساراً فعلياً وجذرياً، إن وصل للسلطة يكون قادراً على مواجهة «ديمقراطية» واشنطن و«انقلاباتها» دون تلكؤ أو مهادنات «إصلاحية».
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1106