إضاءة مختصرة على التاريخ الحديث للموضوع الأوكراني...
بين الزوايا العديدة التي يمكن ضمنها قراءة الحدث الأوكراني، فإنّ هنالك أهمية خاصة لمقاربة المسألة من وجهة نظر أسسها التاريخية، ليس من وجهة نظر إثنية ولغوية وإلخ، ولكن بالضبط من وجهة نظر تموضع أوكرانيا ضمن التوازنات الدولية وتطور ذلك التموضع خلال عقود عديدة ماضية...
يمكن فيما نعتقد أن تساعد مقاربة الموضوع من هذه الزاوية بالذات، بوضعه في مكانه وسياقه الحقيقي، بعيداً عن مقاربات الكلام السياسي اليومي الدارج...
تطور الأزمة الأوكرانية بالشكل الذي نراه كان أحد التعبيرات الكثيرة عن تناقضٍ حادّ في مصالح الدول الرأسمالية من جهة، والإمبريالية في الجهة المقابلة، بعد أن أصبح لزاماً على هذه الأخيرة طحن وتفتيت جميع المنافسين الرأسماليين الآخرين في سبيل الحفاظ على المنظومة المتهالكة. هذه المقدمة أعلاه، يمكنها أن تصبح قاصرة وخاطئة إذا لم يجر استكمالها؛ فإذا كانت «الحرب» تعتبر تجلياً لهذا الصراع، فما يجري في أوروبا الآن سيتحول حتماً في نهاية المطاف لاستهدافٍ مباشر لـ «رأس الثعبان» مما سيحمل أثراً كبيراً على كامل «الجسد»... فالنتائج المتوقعة لهذه الحرب ستقوض آخر الأعمدة التي تستند عليها الإمبريالية الأمريكية لنشهد في نهاية المطاف استكمال التحول الكبير...
المقدمات التاريخية
شكّلت وحدة شعوب روسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا مادة أساسية في فهم القلق الروسي اتجاه ما جرى في أوكرانيا طوال العقد الماضي، فإلى جانب موقعها الحساس بالنسبة لروسيا كانت أوكرانيا مكوناً أساسياً ضمن فضاءٍ واحد كبير، وكانت عاصمتها كييف عاصمةً لأول دولةٍ روسية في التاريخ. لتكون أوكرانيا في فترة تاريخية أخرى جزءاً أساسياً من الاتحاد السوفييتي ولعبت جمهورية أوكرانيا الاشتراكية دوراً محورياً في تاريخ السوفييت منذ بدايته وحتى انهيار الاتحاد في 1991.
المشكلة التي تحدث عنها الرئيس الروسي في أكثر من مناسبة، هي أن القيادة السوفييتية تعاملت مع الحدود الفاصلة بين جمهوريات الاتحاد بوصفها حدوداً إدارية، وجرت في الفترة السوفييتية إعادة ترتيب، كانت تجري في كثيرٍ من الأحيان لأسبابٍ إدارية بحتة. لكن هذه الحدود الإدارية تحولت فجأةً إلى حدودٍ سياسية قسّمت أبناء البلد الواحد الذين كانت الروابط فيما بينهم أكبر بكثير من حدود الفصل السياسية. لكن وعلى الرغم من صدق هذه المعلومات، إلا أنها لم تشكّل الدافع المباشر لاتخاذ قرار بإجراء عملية عسكرية في أوكرانيا، أو في جورجيا من قبلها. فالاتحاد الروسي الذي اعتبر الوريث للاتحاد السوفييتي اضطر للتعامل مع آلاف المشكلات ذات الطبيعة المتقاربة، لا بل إن شكل انهيار الاتحاد السوفييتي الذي وصفه الغربيون بالـ «هادئ» كان مقدمة لمجموعة من الحروب والكوارث التالية، والتي شكّلت بالنسبة لروسيا أحد أهم التحديات التي تهدد بقاءها متماسكة وموحدة. لكن ما جرى في أوكرانيا مؤخراً حمل في طياته مسألة ذات طبيعة وجودية، وخصوصاً أن الظرف قد تغيير جذرياً منذ تسعينيات القرن الماضي.
السوفييت في الحرب العالمية الثانية
وجد الاتحاد السوفييتي نفسه وحيداً في مواجهة الألمان، وكان قادته يدركون بوضوح أن لدى الدول الغربية رغبة حقيقية في أن يجري تفتيت بلدهم من قبل النازيين، لا بل إن الدلائل على التواطؤ الغربي مع هتلر، ودعم طموحاته في التوسع شرقاً لا يمكن إخفاؤها، وهي تشكّل اليوم أحد أهم مفاصل تاريخ «الحرب الوطنية العظمى» كما جرت تسميتها في الاتحاد السوفييتي. ففي الوقت الذي كانت فيه القوى الفاشية تعد العدّة لغزو الاتحاد السوفييتي كانت تلقى كل الدعم من قبل الغرب، وكان علنياً في بعض الأحيان، ومخفياً في أحيانٍ أخرى كثيرة، ويعتبر تاريخ الشركات الأمريكية في دعم الاقتصاد النازي أحد الأمثلة على هذا التواطؤ. الملفت أكثر من ذلك، هو السلوك الغربي أثناء الحرب، فقد تعمدوا التأخر في دخول الحرب، وتأخير انخراطهم فيها حتى بعد أن تبين حجم الخطر الذي تشكّله الماكينة الحربية النازية على العالم، وظلوا يأملون بتحميل الفاتورة الأكبر للاتحاد السوفييتي وحده. حتى أن ستالين وفي مناسبات متفرقة أعرب صراحة عن تقاعس الدول الغربية في مواجهة النازيين، وكانت مطالبات الاتحاد السوفييتي بالإسراع بفتح «الجبهة الغربية» كثيرة ومتكررة. كل هذا شكّل قناعة راسخة لدى السوفييت أن الغرب تمنى سقوطهم وعمل على هذا فعلاً، حتى لو تم ذلك على أيدي النازيين الذين شكّلوا الذراع الضاربة لقوى رأس المال الأكثر رجعية وإجراماً.
القناعة السوفييتية لم تتبدد بعد انتهاء الحرب بل ترسخت أكثر، فالولايات المتحدة وبعد أن ضربت اليابان باستخدام قنبلتين نوويتين وضعت خطة لاستهداف 20 مدينة سوفييتية بالسلاح النووي، وشكّلت هذه الخطة الملمح الأول لحقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، التي تحول فيها الاتحاد السوفييتي- حسب الدعاية الغربية- من بطل بعد قضائه على النازيين وتحرير العالم إلى مصدر للخطر الذي ينبغي احتواؤه والتضييق عليه، ولذلك تم إنشاء حلف الناتو في عام 1949 ليبدأ التحالف المشؤوم بالعمل لتحقيق هدفه المعلن.
انهار الاتحاد السوفييتي ولكن!
كانت الدعاية الغربية قائمة على فكرة «ضرورة ردع الخطر الشيوعي» لكن انهيار الاتحاد السوفييتي لم يغير في جوهر المعاملة الغربية تجاه جمهورياته السابقة، التي جرى نهبها وتحويلها إلى ساحات للحروب والمعارك الدموية. فعلى الرغم من زوال الذريعة التي قام عليها الناتو ظلت الولايات المتحدة متمسكة بهذا التحالف، ولم يكن من الصعب على روسيا الاتحادية أن تدرك أنها ستكون الجائزة الكبرى للإمبريالية الأمريكية التي باتت بأمس الحاجة إلى سحب ما تبقى من ثروات الاتحاد السوفييتي كشكل وحيد للخروج من الأزمة القادمة، فالوعود التي قطعها القادة الغربيون بعدم توسع الناتو شرقاً جرى نكثها، بل وجرى إنكارها أيضاً. إلى أن جرى مؤخراً رفع السرية عن وثائق أكدت الاتهام الروسي، فالغرب قدم بالفعل وعوداً شفهية بعدم توسع الحلف كضمانة لأمن روسيا، ولكن منذ عام 1990 قام الناتو بخمس مراحل من التوسع شرقاً، ليشمل بولندا والمجر والتشيك وثم تلاها انضمام بلغاريا، وإستونيا، ولاتفيا، وليتوانيا، ورومانيا، وسلوفاكيا، وسلوفينيا، ومن ثم ألبانيا وكرواتيا والجبل الأسود. ليصبح بذلك حلف الناتو أداة جديدة لا لاحتواء روسيا فحسب، بل لحصارها تمهيداً لتفتيتها كغيرها من الدول التي تسعى الإمبريالية لالتهامها كمخرج من أزماتها.
في الوقت الذي كانت روسيا تستنكر فيه التوسع الذي يقوم به الناتو على حدودها، لم تكن قادرة على القيام بردعه بشكل فعلي، وتحولت أجزاء من حدودها إلى قواعد متقدمة لقوات العدو. لكن وزن روسيا كان يأخذ في الازدياد واستطاعت قطع الطريق أمام دخول جورجيا إلى حلف الناتو في 2008 وهو ما كان بمثابة مؤشر على سلوك مختلف لروسيا أمام انتهاكات الناتو المتكررة.
أوكرانيا والهجوم المضاد
بدأت التغييرات في أوكرانيا تتسارع منذ عام 2013 وشهد البلد استقطاباً حاداً انتصر فيه مؤقتاً أنصار الغرب والذين بدأوا العمل الحثيث لتحويل أوكرانيا إلى رأس حربةٍ في وجه روسيا، ليطووا صفحة «حياد أوكرانيا» ويتقدموا بطلب رسمي للانضمام إلى حلف الناتو. وبدأت القوات الأوكرانية بالمشاركة رسمياً في مناورات حلف شمال الأطلسي، في الوقت الذي تعقدت فيه الأزمة الداخلية في أوكرانيا.
التحول الذي جرى في العقد الماضي في أوكرانيا شكّل تهديداً لروسيا دون شك، لكن مشكلة روسيا كانت أكبر من حدود أوكرانيا، فما كان يجري في كييف كان يجري في أوروبا طوال عقود مضت، وكان يجري بما يخالف مصالح كل الدول الأوروبية بما فيها أوكرانيا، وذلك لأنه كان يلبي المصالح الأمريكية. فالولايات المتحدة رأت أن أفضل طريقة للسيطرة على أوروبا وروسيا ضمناً، هي إبقاء حالة من الصراع الدائمة التي يمكن من خلالها ضرب الجميع بالجميع، لتبقى هي القوى الأساسية المسيطرة في ساحة كبرى تشغلها دول مفككة وضعيفة يمكن أن تكون مصدراً لما تبقى من ثروات دفينة وسوقاً لتصريف البضائع.
الضمانات الأمنية مجدداً
قبل أن يتحول الصراع إلى الشكل المسلح في أوكرانيا تقدمت موسكو باقتراح لضمانات أمنية، لكل من واشنطن وحلف الناتو، التي تعبر في جوهرها عن ضرورة استئصال أصل المشكلة، وهو الوجود الأمريكي وما رافقه من سلوك عسكري تصعيدي وتهديد للأمن في أوروبا، واقترحت موسكو في ورقة الضمانات إيجاد أرضية جديدة للتفاهم تقوم على المصالح المشتركة للجميع، والضمانات الأمنية لكل الأطراف، لكن الولايات المتحدة رفضت هذه المطالب ودفعت الدول الأوروبية إلى رفضها، على الرغم من إدراك الجميع أن ما تقدمت به روسيا هو حقٌ طبيعي بالعيش الآمن وإبعاد مصادر الخطر عن حدودها، ويبدو أن الأيام القليلة الماضية قد بينت لروسيا أن أمامها طريقاً وحيداً لإخراج الولايات المتحدة من أوروبا، وهو عبر توجيه الضربات الموجعة التي يكون من شأنها لا تحييد نظام كييف الحالي فحسب، بل إرسال رسالة واضحة للخصوم الذين لا يأخذون التحذيرات الروسية على محمل الجد.
كان احتمال تحول الصراع إلى صراع مسلح خياراً مستبعداً ولا زال، فوصف القيادة الروسية العملية الحالية بأنها «عملية عسكرية خاصة» تهدف لـ «نزع سلاح كييف» يعني أن روسيا ترى أن إمكانية التفاوض بعد نزع سلاح كييف ستصبح أكبر، فالولايات المتحدة استخدمت أوكرانيا لاستفزاز روسيا وتجاهلت فرص التهدئة الحقيقة، لكن التطور الأخير من شأنه أن يعيد خلط الأوراق من جديد، فكلما ازداد حجم الرد الغربي على العملية الروسية سوف يقابله تراجع في أدوات واشنطن في أوروبا، فالعقوبات الغربية لا تنعكس سلباً على أوروبا فحسب، بل تقلل من تأثير الأسلحة الأمريكية وتخرجها من الاستخدام بشكل سريع. وهو ما يعيدنا إلى نقطة البداية.
المعركة التي بدأتها روسيا بشكليها السياسي والعسكري ستكون ذات تأثير واسعٍ جداً لا على أوكرانيا أو أوروبا فحسب، بل إنها ستسرع حسم شكل التطور اللاحق في روسيا من جهة، وستغير المناخ العالمي الذي سيشهد أولى أوضح نتائج التوازنات الجديدة في العالم. فروسيا أعلنت أن عدم قبول ضماناتها الأمنية ستنتج عنه «إجراءات عسكرية تقنية» ستكون نتائجها بالطبع فرض هذه الضمانات بالقوة.
«حروب الغرب» وحدها المقبولة
يعتبر رفض الحرب بمثابة استجابة فطرية متوقعة بالنسبة للبشر، وذلك على الرغم من أن الحرب نفسها كانت ضرورة وجودية في كثير من مفاصل تاريخنا البشري، إلا أنها وما أن تُذكر حتى يتشكّل موقف سلبي لدى معظمنا، لكن بعض الأمثلة بيّنت أن موقف البشر من الحرب متغير بشكلٍ مثير للاهتمام فبعض الحروب تكون مقبولة وضرورية وبعضها الآخر مرفوضة وإذا ما راقبنا بدقة المضمون الذي تقدمه النخب الحاكمة في الغرب عبر وسائل إعلامها لتبين معنا أن «الحروب المسموح بها والمبررة» هي حروب الغرب وإن كل الكوارث التي نتجت عنها ما هي إلا «أضرار جانبية لابد منها»، فهكذا كانت حروب العراق وأفغانستان وفيتنام ويوغوسلافيا ويقدم البعض الآخر رؤية أخرى مغلوطة، وهي التي تساوي بين جميع الحروب فتصبح حرب النازيين كحرب أولئك الذين يدافعون عن أرضهم بوجه الغزاة. أو يكتفي هؤلاء برفع «السلام» شعاراً دائماً بعد تفريغه من مضمونه فيصبح «القتال» قتالاً بغض النظر إن كان قتالاً من أجل البقاء أو قتالاً من أجل نهب ثروات الغير!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1059