«غرينلاند» تظهر من تحت الجليد

«غرينلاند» تظهر من تحت الجليد

تداولت وكالات الأنباء ومجموعة من الصحف العالمية أخباراً جديدة تخص «أكبر جزيرة في العالم»؛ غرينلاند. فما الذي يجري في «الأرض الخضراء» التي يغطي الجليد ثلاثة أرباعها، وما الذي يدفع الأمريكيين اليوم لعرض شراء أو استئجار هذه الجزيرة الإستراتيجية؟

غرينلاند

تقع الجزيرة بين القطب الشمالي والمحيط الأطلسي وتزيد مساحتها عن 2مليون كم2، وتتبع سياسياً لمملكة الدنمارك منذ القرن الرابع عشر، ولكنها حصلت على الحكم الذاتي منذ 1979. تعاني بسبب غطائها الجليدي السميك من صعوبة في تأمين مواردها التي ترتكز بشكل أساس على تصدير الأسماك، ناتجها الوطني الإجمالي يقارب 2,7 مليار دولار، وتحصل على 700 مليون دولار كمعونة من الدنمارك. عدد سكان هذه الجزيرة 55 ألف نسمة.

ولكن ما الذي يجعل هذه الجزيرة تحظى اليوم بهذا الاهتمام؟ وما هي المقوّمات التي تجعل منها منطقة ذات أهمية إستراتيجية عالية جداً؟

«نشتري أو نستأجر»

منذ أواسط شهر آب الماضي نقلت «وول ستريت جورنال» أنباءً عن «مصادر مطلعة» في البيت الأبيض، أن ترامب يفكر جدياً بشراء غرينلاند، وجاء على لسان مستشاره الاقتصادي: «لا أريد التكهن. أقول فقط إن الرئيس الذي يعرف بعض الأمور عن شراء العقارات يريد دراسة عملية شراء غرينلاند»، وأكد ترامب نفسه هذه الأنباء بعد بضعة أيام فقال في تصريحاتٍ له أمام الصحفيين أنه ناقش في الآونة الأخيرة موضوع شراء الجزيرة.

إلا أن ردود فعل سريعة من الدنمارك رفضت الطرح الأمريكي، فوصفت رئيسة وزراء الدنمارك، مته فريدريكسن، فكرة شراء الجزيرة من قبل واشنطن «بالسخيفة»، وقام وزير خارجية غرينلاند آني لون باجر بتصريحات شبيهة فقال في رده على هذا العرض: «نحن منفتحون على التجارة لكننا لسنا للبيع».

وجاء في مقال لـ مايكل بوم في «موسكوفسكي كومسوموليتس» أنه: «يمكن للولايات المتحدة استئجار كامل أراضي غرينلاند من الدنمارك. أنا متأكد من إمكانية الاتفاق على سعر إيجار يناسب الطرفين» لكن لا آفاق تبدو حول هذا الطرح إلى الآن. وكانت أولى آثار هذا الرفض السريع، قيام ترامب بتأجيل زيارته المقررة إلى الدنمارك.

ومن الجدير بالذكر، أن هذه ليست المرة الأولى التي تحاول الولايات المتحدة الأمريكية الحصول فيها على الجزيرة؛ فالعرض الأول والذي قوبل بالرفض كان عام 1868 والعرض الثاني كان رسمياً عام 1946 من الرئيس الأمريكي ترومان مقابل مئة مليون دولار، ورُفض هذا العرض أيضاً في وقتها، ولكنها اكتفت بالحصول على قاعدة عسكرية جوية مستأجرة في شمال غرينلاند وكانت قاعدة أمريكية متقدمة منذ الحرب البادرة إلى الآن.

الأهمية الإستراتيجية للجزيرة

ذوبان الجليد الذي يشكل موضوعاً ساخناً في قضية البيئة، يشكل أيضاً موضوعاً ساخناً بالمعنى السياسي الإستراتيجي؛ فهو يحمل في طياته تغيرات جغرافية وطبيعية ذات أبعاد سياسية واقتصادية مهمة، وإذا ما نظرنا إلى بعض الإحداثيات على الخريطة يمكننا الحديث عن ثلاثة محاور أساسية:

أولاً: الجزيرة كحاملة طائرات

لا يجب أن يغفل الحديث عن القطب الشمالي أنه يعتبر بالنسبة لروسيا «فناءً خلفياً»، فـ 40% من ثروات وسكان القطب الشمالي هم جزء من روسيا، الذي يستقر ثلثا أسطولها البحري على سواحله الشمالية، ولدى الروس نشاط علمي واقتصادي استثماري كبير في هذا المحيط، ويحاولون ضم 1,2 مليون كم2 عن طريق طلب رسمي رفع إلى الأمم المتحدة في 2015 والذي لم يتم البت به إلى الآن.

وهذا يشكل موضوع قلقٍ بالنسبة للأمريكيين، فلم يمض وقت طويل على التصريحات التي أدلى بها قائد خفر السواحل الأمريكي الأميرال كارل شولتز في منتصف تموز الماضي، حيث قال في منتدى الأمن الدولي في مدينة أسبن بولاية كولورادو الأمريكية: «يجب أن نشعر بالقلق إزاء هذا. روسيا تتفوق بكثير على الولايات المتحدة في مجال الوجود العسكري في منطقة القطب الشمالي، التي قد تصبح في المستقبل ساحة للخلاف بين البلدين».

ما يشكل دافعاً جدياً بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية لزيادة وجودها العسكري في هذه المنطقة؛ فغرينلاند وإن كانت تتبع سياسياً إلى أوروبا ولكنها جزيرة لها ربع مساحة الولايات المتحدة الأمريكية، وهي جغرافياً جزء من «أمريكا الشمالية»، وهناك في الأفق الأسطول الحربي الروسي الضخم. لذلك كله، فإن فكرة توسيع القاعدة الجوية الأمريكية هناك، حتى ولو شملت الجزيرة كلها، هي ضرورة بالمعنى العسكري من وجهة نظر واشنطن، ودون حاملة طائرات بحجم غرينلاند، لن يمكّنها وزنها الحالي في القطب الشمالي من فعل الكثير.

ثانياً: الطريق البحري

ذوبان الجليد الذي يحدث فتح المجال لاستخدام الطريق البحري الذي يمر من القطب الشمالي، والذي يمكن أن يشكل تغييراً كبيراً جداً على الطرق التجارية العالمية، وهذا ما يُعدّ بالنسبة للدول الكبرى قضية شديدة الأهمية بالمعنى الإستراتيجي، ودافعاً لفرض السيطرة على هذه الطرق التي تعتبر صلة الوصل الأسهل بين المحيط الهادي والأطلنطي، والتي تشكل بالنسبة لروسيا والصين أهمية خاصة، لأنها تعني إمكانية أكبر لربط الشرق بالغرب، وهو أساس الإستراتيجية الصينية العالمية.

وأفادت تقارير أن غرينلاند وبسبب الضغط الأمريكي رفضت الاقتراح الصيني الذي تلتزم الصين فيه بإنشاء 3 مطارات في غرينلاند مما يشكل زيادة في الاستثمارات الصينية هناك.

ثالثاً: الثروات الباطنية

تصل سماكة الجليد في غرينلاند إلى ما يزيد على 3 آلاف متر في بعض المناطق وهذا شكل عائقاً جدياً لاستكشاف الثروات واستخراجها، وهذا ما بدأ يختلف أيضاً مع ذوبان الجليد.

يهمنا الحديث بشكل أساس عما تحويه غرينلاند من «العناصر النادرة» «Rare-earth elements» التي تشكل عماداً لجزء كبير من الصناعات الإستراتيجية (العسكرية والإلكترونية وتوربينات الهواء)، وتعد الصين أهم منجم لهذه العناصر الـ 15 وتحتكر ما يقارب 90% من استخراجها وتصديرها، وهي ورقة تشكل كابوساً بالنسبة لواشنطن، إذا ما لجأت الصين إلى استخدامها على طاولة الحرب التجارية الدائرة بين الدولتين. حتى أنه، وحسب مجلة فوربس الأمريكية، من المرجح أن تكون التطورات التي يشهدها ملف «العناصر النادرة» في غرينلاند، هو الدافع الأساس لعرض الولايات المتحدة شراء الجزيرة. فمنذ عام 2007 بدأت شركة أسترالية تعمل في مجال الاستكشاف في الجزيرة، والذي كان يهدف في بداية المشروع إلى البحث عن اليورانيوم، ولكن بدأ هذا المشروع بالتوسع لتصبح «العناصر النادرة» الهدف من هذه الاستكشافات والتنقيبات، ولكن الأمريكان تأخروا مرة أخرى، فالصين تملك 11% من أسهم الشركة الأسترالية «Greenland Minerals» وهي الحصة الأكبر في الشركة. والقلق الأمريكي كان واضحاً، وخصوصاً بعد زيارة السفيرة الأمريكية في غرينلاند كارلا ساندس لمشروع «Greenland Minerals».

تصريحات «عسكرية»

إلغاء زيارة ترامب إلى الدنمارك كانت «صادمة» بالنسبة لرئيسة وزرائها، وتقوم الدنمارك ببعض إجراءات تبدو عسكريةً في ظاهرها، ولكنها لا تخرج عن كونها محاولات دبلوماسية لاسترضاء الولايات المتحدة بعد أن رفضت الأولى محاولات أمريكا شراء الجزيرة ببرود أوروبي جَلِف. إذ نقلت وكالات الأنباء تصريحات عن وزارة الدفاع الأمريكية ترحيبها بقرار الدنمارك نقل جنود للمساهمة في القضاء على داعش في سورية، بجانب التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن، بالإضافة إلى تصريحات على لسان فريدريكسن، قالت فيها إن بلادها تجري محادثات مع الدول الأوروبية حول تشكيل قوة بحرية دولية في مضيق هرمز في الخليج.

لا يمكن نسيان أن الدنمارك كانت حليفاً عسكرياً دائماً لواشنطن، ولكن ما هو الحجم العسكري الفعلي للدنمارك؟ والتي تملك جيشاً يصل تعداده إلى 12 ألف مقاتل، أرسلت منهم 750 جندياً إلى أفغانستان، وضحت ب 7 من جنودها في حرب العراق عام 2003. وجيش بهذا الحجم يمكن ألا يلحظ وجوده إذا ما زج به كاملاً في ساحة الصراع السورية، ولن تستطيع أن تلعب دوراً ذا أهمية في الخليج أيضاً. ويمكننا القول إن المساعدة الوحيدة التي تستطيع الدنمارك تقديمها للولايات المتحدة هي «أرضها الخضراء»، ولكن دون ذلك عقبات كبيرة، يبدو أن من الصعب جداً اجتيازها...

معلومات إضافية

العدد رقم:
930
آخر تعديل على الجمعة, 16 نيسان/أبريل 2021 16:31