«بيت حانون» نموذج للوحدة الوطنية الحقيقية

ستة أيام، والمجزرة الوحشية الصهيونية على أرض بلدة «بيت حانون» أو كما يسميها أهل غزة (عروس الشمال) مستمرة، بالرغم مما حملته الساعات الأخيرة مع بدء فجر اليوم الثلاثاء من تصريحات للمتحدث الحربي الصهيوني من «أن القوات العسكرية بدأت بالانسحاب»، وهو ما نفاه سكان البلدة الذين أكدوا أن مايحصل هو عمليات إعادة انتشار، إذ أن الآليات مازالت تتحكم بالمداخل والجوانب. «غيوم الخريف» الحربية التي تساقطت كتلاً من القذائف والرصاص على الشعب والأرض، كانتا المرحلة المتقدمة من «أمطار الصيف» و«رجل المطر»، فهي الحلقة الجديدة من الجرائم المتدحرجة التي عرفها شعبنا منذ عشرة عقود من الزمن.

هَطَلت الأمطار النارية مع إعطاء إشارة البدء الأمريكية، فالمتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية "شون ماكومارك" علّق على تصريحات حكومة العدو التي مَهَّدَت للعدوان بقوله _ نقلته الوكالات قبل بدء المجزرة بساعات _ (إن «إسرائيل» دولة تتمتع بالسيادة، وهي لاتحتاج إلى إذن الولايات المتحدة للتحرك دفاعاً عن النفس... وهي ليست بحاجة إلى إذن، نحن لانعطي ضوءاً أحمراً أو برتقالياً أو أخضر). فمع الساعات الأولى ليوم الأربعاء بدأت المذبحة، بعد أن أصدر المجلس الوزاري، الذي أضافت له أفكار وخطط العنصري الفاشي «أفيغدور ليبرمان» ما يحتاج من الهمجية والوحشية. لقد انطلقت وحدات من لوائي «غولاني» و«جفعاتي» ومن فرقة المدرعات وسلاح الهندسة المدعومة من الطائرات، في عملية عدوانية جديدة، يحددها المراسل العسكري لصحيفة يديعوت أحرونوت أليكس فيشمان بأنها (عملية موضعية، مع أهداف محددة، ولفترة زمنية محدودة، لكنها يمكن أن تكون متداخلة مع عملية أخرى في جبهة أخرى، نحن في مسيرة تدريجية، نحو مواجهة عسكرية واسعة النطاق في غزة).
جاءت المجزرة الجديدة كمحاولة لإعادة «المجد المفقود» للمؤسسة العسكرية، التي تَكَشَفَت هشاشة بنيتها، وضعف أدائها أثناء عدوانها على لبنان في تموز / يوليو الفائت. وهو ما أكدته إفتتاحية صحيفة هآرتس في اليوم الثاني للعدوان (لقد تحولت العملية إلى جزء من صراع البقاء غير المشروع، الذي يقوده أولئك الذين أداروا حرب لبنان). إن القتال البطولي الذي يخوضه المقاومون من كل الفصائل المسلحة في شوارع وأزقة بيت حانون، في ظل إمكانيات محدودة، وحصار شامل، دفع بالعدو للاعتراف بصعوبة المهمة التي يسعى لإنجازها، وهو ما أشارت إليه صحيفة هآرتس يوم 2/11 في خبرها الرئيسي عن معارك غزة (لقد اصطدمت بمقاومة فلسطينية شديدة، تضمنت نار الصواريخ المضادة للدبابات، وتفعيل عبوات ناسفة وإطلاق نار من سلاح خفيف) واصلت باقتدار أسطوري إطلاق الصواريخ على المستعمرات الصهيونية، وتطوير المواجهات العنيفة مع آلياته وقواته الراجلة، وقيام البطلة «ميرفت مسعود» ابنة الثمانية عشر ربيعاً، بتنفيذ عملية استشهادية استهدفت عدة عسكريين غزاة داخل «بيت حانون»، وإسقاط طائرة استطلاع حربية فوق المنطقة، مما يثبت قدرة المقاتلين على إلحاق خسائر كبيرة بالقوات المعتدية، مَنَعَها من تحقيق العديد من أهدافها، على الرغم من التفوق التقني الكبير، وارتفاع عدد الشهداء بشكل متسارع إلى ثمانية وخمسين، وما يزيد عن مائتين وسبعين جريحاً، أكثر من أربعين منهم في حالة حرجة وخطيرة، معظمهم من المدنيين - أطفالاً ونساءً - في عدة مناطق من القطاع الصامد. فالمجازر التي تتوسع كل ساعة، استهدفت المساجد والمستشفيات والمدارس وبيوت المواطنين التي تعرضت للتفتيش والنهب والتدمير، إضافة لإطلاق الرصاص من الرشاشات الثقيلة باتجاه المظاهرة النسائية السلمية التي انطلقت من عدة أحياء داخل "بيت حانون" لتخفيف الضغط على المقاتلين المحاصرين داخل مسجد «النصر» والأبنية الملاصقة له، وهو ما أدى لسقوط العشرات بين شهيدة وجريحة، وحتى الإعلاميين لم ترحمهم رصاصات الغزاة، فقد سقط الصحافي الفلسطيني «حمزة العطار» جريحاً وهو يقوم بتغطية المظاهرة النسائية، فالجريمة يجب أن تتم دون شهود! إنها العقلية «الديمقراطية» الحريصة على حرية التعبير، التي يتعامل من خلالها جنود وضباط الغزو في كل من فلسطين والعراق ولبنان مع الإعلاميين.
لقد كشفت المذبحة الحالية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني مجدداً زيف الإدعاءات الحكومية الدولية حول حماية المدنيين. إن العالم «الليبرالي والديمقراطي» يغض الطرف ويتعامى عن إرهاب الدولة المنظم الذي تمارسه قوات الاحتلال قتلاً وحصاراً، بل إنه يصم أذنيه عن النداءات التي يطلقها المواطنون من داخل الأراضي المحتلة، وهم يستغيثون لتأمين العلاج للجرحى الذين تُمنع سيارات الإسعاف من الوصول إليهم. إن جرائم القتل المنهجية، وسياسة الأرض المحروقة، التي تمارسها حكومة العدو، تستند إلى«صمت القبور» الذي يلف العالم الآن. فمؤسسات المجتمع الدولي واللجنة الرباعية غير معنية بما يحصل في بيت حانون وجباليا والشجاعية وخان يونس ورفح ومخيم بلاطة وجنين وبيت لحم التي سقط فيها عشرات الشهداء والجرحى، لكنها تستنفر كل طاقاتها لإطلاق سراح عسكري صهيوني، وقع في الأسر أثناء عملية عسكرية، بينما يقبع أكثر من تسعة آلاف معتقل فلسطيني رجالاً ونساءً وأطفالاً خلف قضبان المعتقلات الصهيونية. وإذا كانت لامبالاة الحكومات العالمية «الديمقراطية!» غير مقبولة، فكيف يمكن لنا أن نتقبل الصمت العربي؟! فالمشاورات «الرسمية» والمداولات التي دارت بين أكثر من عاصمة لم ينتج عنها موقف رسمي بارز يشكل عامل ضغط على المجتمع الدولي ليتحرك لوقف العدوان. بل إن بعض التصريحات الرسمية، حملت مخاوف مشروعة لدى المتابعين للجهد الرسمي، من أن تكون مواقف بعض الأطراف «متفهمة» لضرورات العدوان! بيان الخارجية المصرية الذي صدر بعد ثلاثة أيام من العدوان قال (إن الوزير «أبو الغيط» عبر عن استياء مصر البالغ من العملية، مندداً بالاستخدام المفرط للقوة وعدم مراعاة المدنيين ...) إن الوضوح البالغ في دلالات «الاستياء» و«المفرط للقوة» قد أزال الالتباس الذي يمكن للمراقب الوقوع فيه. فـ«الحرارة» مازالت تسود العلاقات بين بعض النظم «العربية» ودولة العدو، من خلال السفارات ومراكز التمثيل التجاري والشركات، التي لاتعدو كونها مراكز للتجسس والتآمر.
 إن حرارة الدماء الطاهرة التي تنزف كل ساعة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، يجب أن تدفع بقوى العمل الوطني إلى ضرورة التوحد حول برنامج المقاومة والصمود، خاصة مع الوحدة القتالية التي سطرها المقاتلون في ساحات المواجهة المحتدمة مع العدو. فقد كشفت المجزرة الجديدة أن العدو ماضٍ في سياسة التدمير، ليس للإنسان والشجر والحجر، بل ولكل الاتفاقيات التي تم توقيعها معه. إن كياناً سياسياً قام على طرد أصحاب الأرض الأصليين، واستمر في ملاحقتهم وتصفيتهم، لايمكن التوهم بإمكانية "السلام" معه.
إن المهمات الراهنة على الصعيد الوطني/ القومي والأممي تتطلب العمل الفوري من أجل وقف المجزرة، وفك الحصار عن الشعب، وهذا لن يتم إلا ّ بوحدة وطنية حقيقية، تجمع كل القوى المؤمنة بحقها بالمقاومة والإستقلال، على برنامج المواجهة الشاملة المستند إلى بنية مجتمعية متماسكة في وجه كل الضغوط.

معلومات إضافية

العدد رقم:
285