أبو عمار... عام على الرحيل وعلى تغييب الحقيقة

لم تكن الأشهر التي أعقبت استشهاد ياسر عرفات الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني عادية، متناغمة في رتابتها المعهودة مع سابقاتها، فقد حملت كل ساعاتها، الأكثر طولاً في حياة الشعب، حضوراَ استثنائياً للقائد الذي حفر مجرىً عميقاً في الواقع والوجدان والتاريخ الفلسطيني والعربي والأممي. فأمام كل أزمة سياسية داخلية في الجسم الفتحاوي المترامي، ومع كل هزة تعصف بالبيت السياسي الفلسطيني، وبمواجهة كل استحقاق داخلي واقليمي، وخلال رحلة البحث عن حلول للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المأزومة لآلاف العائلات الفلسطينينة داخل فلسطين التاريخية وخارجها، كان «الختيار» حاضراً في ذاكرة الجميع ، ولسان حالهم يردد «وينك أبو عمار».

إنها الحاجة الدائمة التي لاتتوقف لوجود شخصية كاريزمية استثنائية، جسدتها على مر السنوات المنصرمة رمزية ياسر عرفات، خاصة في ظل فوضى القرار الداخلي السياسي «الأزمة الدائمة بين الرئاسات الثلاث، الخلافات داخل اللجنة المركزية لفتح، الترهل الكبير في بنية الحزب الحاكم وهيئاته، خلخلة البنية الداخلية للتنظيم ولتشكيلات كتائب شهداء الأقصى من حيث تلاشي دور المركز القيادي»، والشَلـََلْ الواضح في أداء الوزارات والمؤسسات. وقد أسس لهذه الحالة الهلامية، طبيعة الأسس التنظيمية للحركة _ مقدار اقترابها أو بعدها عن المراتبية الحزبية _ التي تتيح دوراً أكبر للفرد/ القائد في مجال هيئته أو قطاعه.

  الكتابة عن رحيل الختيار اليوم، ليس المقصود منها رؤية المشهد السياسي/الأمني/الكفاحي الفلسطيني بكل ماله وماعليه رغم أهمية ذلك، بل التوقف أمام ضرورة فتح ملف «طبيعة الوفاة» مجدداً، خاصة وأن الأصوات التي ارتفعت معلنة عن وفاته «إغتيالاً بالسم» لايمكن حصرها بمقالة. الدكتور أشرف الكردي طبيبه الخاص على مدى سنوات، والذي لم يتم استدعاؤه فور بدايات المرض، أكد الإغتيال بالسم طالباً تشريح الجثة. وجاءت تصريحات العديد من المسؤولين في وزارة الصحة، أمين عام مجلس الوزراء سمير حليلة لتؤكد أن سبب الوفاة يتطابق مع ماذهب إليه طبيبه الخاص، كما أن رسالة فاروق القدومي رئيس الدائرة السياسية في منظمة التحرير والشخصية القيادية الأبرز في الحركة، التي تليت في جلسة اجتماع المجلس الثوري التي عقدت في غزة قبل أشهر، أشارت إلى السبب ذاته.

  في الكلمة الهامة التي ألقاها أحد القادة التاريخيين للحركة «أبو ماهر غنيم» (عضو لجنتها المركزية، مسؤول مكتب التعبئة والتنظيم ، والمشرف الأول على قيادة عمل اللجنة الحركية للتحضير لأعمال المؤتمرالعام) أثناء الزيارة التقليدية لمقبرة الشهداء الواقعة بضاحية حمام الشط في تونس بمناسبة عيد الفطر، أمام حشد من الفلسطينيين العاملين والدارسين في الجمهورية التونسية، أشار لعدة محطات سياسية وكفاحية في مسيرة الشعب الفلسطيني والأمة العربية قائلاً: «عندما ننظر حولنا نجد أن فلسطين مازالت ترزح تحت الاحتلال وأن أكذوبة السلام مازالت تنطلي على الكثير من دول العالم، وكذلك الأنظمة العربية التي حاولت أن تبرر تخاذلها، هذه الأنظمة التي تنكرت للحق الفلسطيني والحق العربي، وسكتت وهي ترى جنود الاحتلال الغزاة يقتحمون دولة عربية هي فلسطين، ثم يقتحمون دولة اخرى... ولانعرف أين ستقف عجلة التتار الجدد» مستحضراً بكل الوفاء ذكرى أبو عمار «غاب عنا فارس الثورة ودرعها، عقل الثورة وسيفها، غاب رجل الحرب والسلام، الذي آمن أن قضية فلسطين لايمكن أن تتحرر إلاّ بالقوة والكفاح واستخدام السلاح -مضيفاً- ترجل أبو عمار مبكراً، كان حلمه أن يصلي في رحاب القدس، إلاّ أن الموت لم يمهله والغدر كان حاضراً، وسلمت الروح إلى بارئها». وفي كلام القائد الفتحاوي المخضرم، رفيق درب الشهيد، دلالة واضحة على الخطورة الكامنة في  مدلول كلمة الغدر.

مع مرور العام الأول على فقدان الشعب والأمة لشهيدهما، تنتصب اليوم ذكرى الرحيل بكل التراجيديا التي رافقتها، لتكون حاضرة في حياة الملايين، مجددةً حركة الجدل التي ارتبطت بأسباب المرض، والغموض الذي رافق الوفاة، والمصير الذي لحق بالتقرير الطبي حول سبب الوفاة المباشر. لقد راهن «البعض» على الذاكرة المثقوبة التي يتوهمون وجودها في عقول شعبنا، لكن كل القيادات الوطنية والكوادر المناضلة والملايين من أبناء الشعب والأمة، ترفع صوتها الآن، بأن ساعة معرفة الحقيقة عن ظروف استشهاد قائدها قد دقت وبقوة. إن ضرورة تشكيل لجنة تحقيق وطنية، يشارك فيها أبرز رجال الإختصاص من داخل السلطة والقوى السياسية والهيئات الشعبية، بغض النظر عن الانتماء السياسي أو الأيديولوجي، بالتعاون مع كل الهيئات العربية، والدولية الصديقة أصبحت مهمة وطنية ملحة، فالانتقال من منصات الخطابة، وعبارات الوفاء المدبلجة على الورق، إلى لجنة التحقيق التي تباشر عملها الفوري، أصبحت هي المعيار الدقيق والوحيد لمعرفة درجة الوفاء للشهيد والقضية. إن قائداً بمكانة أبي عمار المحلية والإقليمية والدولية، وقضية بأهمية فلسطين التاريخية، أرضاً وشعباً وديانات، تتطلب منا جميعاً، الشروع الفوري بكشف الغموض الذي أحاط برحيله.

 

■  محمـد العبـد اللـه