جبران الجابر جبران الجابر

سبيكة رديئة.. عصية على السياسة

تتشابك العوامل والمؤثرات حديثها وقديمها في سورية لتشكل تناقضاتها سبيكة رديئة عصية على السياسة، فالمعارضة لا ترى في قوانين الأحزاب والإعلام وغيرهما حلاً أو مخرجاً، وتعتبر أن النظام قدم حيلة إصلاحية وتجنب البدء بأسس الإصلاح فجاءت القوانين لا دستورية، ولكن ذلك، وكما تبين تطورات الأزمة لا ينتهي إلا باعتباره ذريعة، وبرهان السلطات السورية على ذلك يستند إلى أن التظاهرات المعارضة للنظام رفعت منذ الأيام الأولى شعار إسقاط النظام.

إن سورية أدخلت في حلقة سحرية تتكاثف جدرانها كي لا تخرج من تداعيات ذلك الوضع، ويمكن القول إنه يتشكل إجماع وطني على الظروف المعقدة الصعبة الذاهبة إلى حرب طائفية تحمل في طياتها تفتيت سورية.

ورغم تلك المخاطر فالصراع يحتدم بعيداً عن سبل سياسية لمعالجة الوضع والخروج من الأزمة. فالمعارضة بقواها الأساسية ذاهبة حتى النهاية والنظام ذاهب حتى النهاية، إن الاختلاف والتباين في صفوف المعارضة لا يعول عليه في هذه الأزمة، وحتى استمرار تلك الخلافات والتباينات هو دليل آخر على أنه لم تبدأ مرحلة وهنها وتفككها وتراجعها، إن قواها الفاعلة تزداد تأثيراً، ولا يمكن التعويل على ترداد أن الوضع في هذه المحافظة أو تلك عاد إلى طبيعته، وليس هناك مؤشرات يبنى عليها تراجع الاحتدام، حتى أن بعض المعارضين يصرح علانية أن النظام لا يفهم إلا القوة وأنهم أخذوا يعدون العدة لذلك، ويقدم الإعلام الرسمي وقائع يومية على صدامات مسلحة متزايدة.

أما المؤشرات الأخرى على أن الأزمة تدخل أكثر في مأزق فهو أنه رغم أن النظام يعرف أن تلك القوانين مخالفة للدستور لكنه لم يحسم أمره بشأنه، وليس من دلالات على أن الأمر بات يحتاج إلى دستور جديد، ويلاحظ أن كافة الأنشطة المؤيدة للنظام مازالت وقائعها تؤكد التمسك بتلك الشعارات.

إن الفصل الأكثر دلالة على مخاطر هذه الأزمة يستخلص من الحقل السياسي، فالولايات المتحدة وأوروبا تضيف يومياً مواد تطرح استعصاء الحل السياسي وتعتمد بصورة ممنهجة وثابتة على تشديد العزلة السورية عربياً ودولياً وتطوير العقوبات المؤثرة على الوضع الاقتصادي، والتساؤل لماذا تعتمد تلك الدول على تكتيك توالي العقوبات وتتجنب اعتمادها دفعة واحدة؟ إن ذلك التساؤل يدل على أمور عديدة، فالولايات المتحدة غير يائسة من الموقف الروسي كما أنها تأمل في أن تحصد مكاسب علها تتحقق بتضيق الخناق على النظام السوري، ناهيك عن أن اعتماد التقسيط في العقوبات يضع الكثير من أطراف المعارضة أمام خيارات مستقبلية تخص المنطقة ولا علاقة لها بالديمقراطية والحرية والكرامة.

إن استعصاء الأزمة على الحل السياسي وتكشف أوراقه بصورة سافرة هو مسألة أخرى تواجه السياسة والدبلوماسية السورية، وليس من الحصافة في شيء مواجهة التحرك العربي بموضوعة رفض التدخل في الشأن الداخلي السوري حيث لا تقدم هذه الموضوعة قوة سياسية، فهيئات الجامعة عالجت الكثير من مشكلات «داخلية» في الدول العربية، وكان للسياسة السورية مواقف بعيدة عن اعتبار تلك المشكلات شأناً داخلياً يخص هذه الدولة أو تلك، وهذا ما تؤكده الوقائع التاريخية بما فيها الوضع اللبناني تاريخياً وكذلك الوضع الفلسطيني. وليس من العقلانية أن تصبح السياسة مادة للإيهام بأن سورية لا تعبأ بما تتخذه هيئات الجامعة من «مبادرات» وقرارات تتعلق بالأزمة السورية، ومن غير المقنع أن ينظر إلى كل ما يخالف رأي ونظرة الحكومة تدخلاً، أما ما ينصر الحكومة فهو ليس تدخلاً خارجياً، أنضيف أن وقائع تاريخ سورية تؤكد أن المحن التي تمر بهذا البلد أو ذلك لا يمكن اعتمادها على سياسة تستند إلى موضوعة «فالج لا تعالج». إن سورية بحاجة إلى سياسة فاعلة، أما سياسة المقاطعات فقد تزيد العزلة وتضاعف تأثيرها ناهيك عن أنها لا تشكل عنصراً  للبرهنة على أن سورية قوية وغير آبهة بتلك الدول. إن السياسة الصائبة تكمن في معرفة الحلقات الضعيفة في مجموعة الدول العربية والسعي إلى التأثير عليها ومن البدهي القول إن وضع الجميع في سلة واحدة سياسة غير صائبة.

إن ذلك يؤكد عدم الوقوع في نظرة عدم رؤية أن السياسات تتغير وتتبدل مع تغير وتبدل معطيات الأزمة وهذه موضوعة بدهية لا يجوز إغفالها، إن موقف روسيا أو غيرها ليس معطى منتهي التكوين وكذلك الأمر بشأن الصين، ويشمل ذلك موقف عديد من الدول العربية، أنضيف أن هناك منظمات دولية ولنشاطها قانونياته الدولية، وكذلك الأمر فيما يخص الجامعة العربية وهيئاتها. وإذا ما كنا على يقين أن الولايات المتحدة وغيرها مستمرة في اتجاه عزل سورية فإن مقاطعة أي هيئة أو الاستهتار بها هو ساقية في نهر عزل سورية عربياً ودولياً.

طبيعي أن كل ذلك لا يغيّب عن الذهن أن غالبية الدول العربية تريد من الاجتماع الاستثنائي لمجلس الجامعة العربية محطة أولية لتهيئة الظروف إلى نقلة جديدة من شأنها فرض تعقيدات إضافية على الموقفين الروسي والصيني. ورغم أن تلك الدول ماضية في اتجاهها، فإن المعركة السياسية ينبغي خوضها بكل جدية وعدم الاستهانة بها أو إخلاء أية ساحة من ساحات السياسة.

 

ويظل أن المهمة الوطنية الأولى هي إنقاذ الوطن الذي أحد مستنداته التمييز الواضح بين المظاهرات السلمية وأعمال المجموعة المسلحة، كما أن مسؤولية النظام الوطنية تتطلب الارتقاء بالحوار الوطني مهما كانت الصعوبات وليس الاستعاضة عنه باجتماعات على مستوى المحافظات قد تنتهي من حيث واقع تكوينها إلى اجتماعات لممثلي أحزاب الجبهة. والأهم أن سبل وقف إراقة الدماء معروفة وكلما ازدادت الدماء تعقد الوضع الاجتماعي أكثر فأكثر وأفسح المجال لزيادة تأثير المجموعات المسلحة، ويبدو أن الوضع يتطلب أن لا تأتي التدابير الأمنية عاملاً ينشط الأعمال المسلحة ويقوي أطرها الاجتماعية. إن الخطوة الهامة هي قطع الطريق على تنامي العنف ولن يتحقق ذلك إلا بإطلاق حرية المظاهرات السلمية. ومن نافلة القول إن النظام يتحمل مسؤولية آنية وتاريخية لإنقاذ الوطن قبل كل شيء وأهم من كل شيء.