الأزمة الفلسطينية الداخلية ... إنهاء الحوار أم تعثره؟
عادت الساحة السياسية الفلسطينية لحرب البيانات والتصريحات، بعد فترة الهدوء النسبي الذي شهدته إثر اللقاءات التي جمعت رأسي «السلطة والحكومة» في مدينة «غزة». وإذا كانت إتفاقية «التهدئة" قد أدت إلى انخفاض وتيرة الاعتداءات الصهيونية وليس وقفها التام، فإن ماحملته الأيام الأخيرة من تصعيد في لغة الخطاب الإعلامي بين مؤسسة الرئاسة و«دناديشها" من جانب، والحكومة الفلسطينية وحركة "حماس" من الجانب الاخر، قد أعاد للمواطن الفلسطيني مخاوفه من «انفجار» وشيك، تدفع إليه بعض العناصر «النافذة» والمرتبطة بقوى محلية وإقليمية ودولية، سيطيح بكل الإنجازات التي حققها النضال الوطني، ويُدمر البنية المجتمعية الفلسطينية، وهو ما حمل جميع المراقبين على الاستنتاج بأن الحوارات قد وصلت بالفعل إلى طريق مسدود. وقد شكلت التصريحات التي أدلى بها «محمود عباس» في المؤتمر المشترك الذي عقده مع وزير الخارجية الأمريكية في «أريحا» نقطة البداية لتلك الحملة «المنفلتة من عقالها» الهادفة للإطاحة بالحكومة، وقلب طاولة الحوار، ودفع الأوضاع الداخلية الفلسطينية نحو المجهول.
جاء البيان الصادر عن اجتماعات اللجنة التنفيذية للمنظمة في الفاتح من هذا الشهر لينفخ في جمر الأزمة، على الرغم من كون هذه اللجنة «المنتهية صلاحيتها» فاقدة لشرعيتها منذ سنوات، والتي لم تعد تشكل عبر أعضائها، الانعكاس الحقيقي للواقع السياسي والتنظيمي لقوى المقاومة والعمل الجماهيري. لقد تضمنت لغة البيان مواقفاً «انقلابية» وتحريضية، عبر اشتراطاتها ومطالبتها للحكومة بالاستقالة. كما جاءت تصريحات بعض من شاركوا بالاجتماع، لتزيد من دفع الأوضاع نحو حافة الانفجار (ياسر عبد ربه ... نموذجاً) وهو مادفع بأحد المشاركين بالاجتماع «مصطفى البرغوتي» النائب بالمجلس التشريعي للقول (إن البيان لم يكن دقيقاً، ولم يُعَبر بمصداقية عما جرى التوافق عليه في الاجتماع!!). وقد جاءت ردود الناطق الرسمي للحكومة، والناطق باسم «حماس» وبعض رموزها البارزين في المجلس التشريعي على تصريحات «أبو مازن» وبيان التنفيذية لتعيد للساحة السياسية حراكاً لفظياً عنيفاً، توجته تصريحات الوزير «عاطف عدوان» النارية والتخوينية، لتضيف للمشهد أزمات «دراماتيكية» جديدة.
إن الإجراءات التي تسعى إليها مؤسسة الرئاسة وتوابعها كمخرج للأزمة، لا تعدو كونها إعادة إنتاج للمأزق الراهن بطرق أخرى، فاللجنة السداسية التي شكلتها «التنفيذية» من بين أعضائها، لا تملك من الثقل السياسي والمعنوي ما يؤهلها رسم خطة الخروج من الأزمة. والتفاؤل لدى البعض من أن الحوارات لم تتوقف تماماً، بل إنها«متعثرة" فقط ، لن يعيد عربة الحوار لسكة الانطلاق. إن ما تحدث عنه «محمود عباس" في مؤتمره الصحفي مع مرشحة الرئاسة الفرنسية «سيغولين رويال» قبل أيام، يلامس جذور الخلاف (المسألة ليست خلافاً على مقاعد أو مواقع، فالقضية هي قضية مبدأ ...) بكلام آخر محدد، إنها قضية البرنامج السياسي أساساً.
وإذا كان البعض في الساحة السياسية الإقليمية والدولية قد راهن على سقوط الحكومة الفلسطينية بفعل الحصار القاسي الذي تعرضت له على مدار الأشهر الثمانية من عمر تشكيلها، فإن التحرك الراهن لرئيس الحكومة داخل الساحة العربية، يؤكد فشل رهانهم. إن حجم الاهتمام والدعم المادي والسياسي والمعنوي (سورية وقطر كأمثلة) الذي حظيت بها جولة رئيس الوزراء تشير إلى تنشيط «الدورة الدموية» ليس فقط داخل جسد الحكومة _ رغم أهمية ذلك _ بل وفي حياة الشرعية التشريعية والتنفيذية التي أدت إليها انتخابات يناير الماضية، وهو ما ينبغي أن تتفهمه «الرئاسة» وتوابعها، وتسعى للتعامل مع استحقاقاته. إن المحاولات المحمومة للاستقواء على الحكومة، بالعودة للغة التهديد والوعيد_ المستندة وهماً وتضليلاً إلى النظام الأساسي الفلسطيني _ لن يساهم بحل الأزمة بمقدار ما يراكم عقبات جديدة.
إن الاصطفاف المطلوب في اللحظة الراهنة، يتطلب الخروج من ثنائية الحوار والصراع، من خلال توسيع دائرة المشاركة في الحوارات، عبر تصويب مجرى النقاشات، وإخراجها من الدائرة الضيقة «المحاصصة» إلى فضاءات أوسع «التمسك ببرنامج المواجهة للاحتلال، كسر الحصار الذي تفرضه الولايات المتحدة وتوابعها، تمتين بنية المجتمع الفلسطيني على قاعدة الوحدة والتآلف مع التنوع" وهذا رهن بتشكيل أدوات ضغط شعبية تقودها الشخصيات التاريخية، والعناصر النشيطة في مجالات العمل الوطني والجماهيري المتعددة، ذات السجل النظيف «وطنياً وأخلاقيا».