إستراتيجية «البقاء في الملعب»!
أعرف، كما يعرف الجميع، أن الذين سعوا وتوصلوا، ثم وقعوا على «اتفاق أوسلو»، كانوا قد اختاروا المفاوضات سبيلاً إلى ما يسمونه «استرداد الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني»، لكنني مثل الكثيرين لم أستطع، طوال الوقت، أن أفهم تمسك الرئيس محمود عباس ومؤيديه بهذا الخيار بوصفه خياراً وحيداً ولا خيار غيره.
أكثر من ذلك، لم أستطع أن أفهم كيف يعلن رجل، بعد ما يقرب من ثمانية عشر عاماً من المفاوضات، أنها كانت «مفاوضات عبثية»، ثم يعود في اليوم التالي ليؤكد أن خياره لايزال هو «المفاوضات ثم المفاوضات ثم المفاوضات». أعترف أنني لم أستطع أن أفهم ذلك وبقيت على «قلة فهمي» إلى أن التقيت، قبل أيام، زميلاً «شرح» لي الوضع من خلال حوار دار بيننا، سأحاول أن ألخصه بأمانة وبقدر ما تسمح به المساحة المتاحة لهذا المقال.
كان حديثنا قد ابتدأ عن المصالحة المتعثرة، ولماذا هي متعثرة، ومن المسؤول عن هذا التعثر:
قال: أبو مازن هو السبب، على الأرجح .
قلت: ولماذا؟ ألا يريد أن يذهب إلى الأمم المتحدة بورقة الوحدة؟
قال: بلى. لكنه لن يناسبه أن يربح (حماس) ويخسر الولايات المتحدة وأوروبا.
قلت: ولكنه من دونها قد يخسر الجميع.
قال: اسمع، سأقول لك شيئاً قد تستغربه: إن الرئيس محمود عباس هو أشد الزعماء الفلسطينيين ذكاء وأكثرهم دهاء، ولعله الوحيد الذي استطاع أن يكشف لؤم وخبث اليهود، وأن يعرف كيف يتعامل معهم، ولذلك هم يرونه خطراً عليهم وعلى كيانهم، وأعتقد أن معهم الحق في ذلك.
قلت: اعذرني لم أفهم، هل لك أن توضح؟
قال: أبو مازن، قبل أن يوقع على اتفاق أوسلو كان قد شطب من مفكرته قصة المقاومة المسلحة واختار المفاوضات.
قلت: لكنه هو الذي استنتج أن المفاوضات عبثية، فما الفائدة وما الحكمة وأين الدهاء؟
قال: نعم، المفاوضات حتى الآن عبثية، وقد تبقى عبثية لفترة مقبلة، لكن ليس هذا هو المهم، المهم هو «البقاء في الملعب».
قلت: أي بقاء وأي ملعب؟
قال: أعني أن تظل موجوداً تنتظر «المتغيرات» لتستفيد منها. أبو مازن يراهن على «المتغيرات»، ويرى أنه يجب أن يكون موجوداً حتى يستفيد منها. في مباريات كرة القدم، قد ينتهي الشوط الأول من المباراة بالتعادل، وقد يتقدم فريق بهدف أو أكثر. في الشوط الثاني، يمكن أن تتغير الظروف ويتقدم الفريق الخاسر، بل إن «الوقت بدل الضائع» يمكن أن يمثل فرصة لفوز هذا الفريق.
قلت: يا صديقي، ماذا تقول؟ كيف يمكن أن يحدث ذلك والفريق الخصم يسجل في كل دقيقة هدفاً في مرمى الفريق الخاسر في ما مضى من المباراة؟ لقد تراكمت الأهداف في «الشوط الأول»، ولا تنسَ أن وقت المباراة ليس مفتوحاً إلى أن تتغير الظروف وتحدث المعجزة فتقلب الموازين هكذا بمجرد الانتظار. إن الظروف لن تتغير وحدها، والمعجزة لن تحدث دونما أية مبادرة أو مساهمة من الفريق الخاسر. وقت اللعب يمر، وفي لحظة، ليست بعيدة، سينتهي وقت اللعبة وسيجد الفريق الخاسر نفسه خارج الملعب شاء أو أبى مكللاً بالهزيمة.
قال: قد يبدو ما تقوله الآن صحيحاً، لكنها نظرة متشائمة، وقد تحدث «المتغيرات» قبل أن ننهي هذا الحوار.
قلت: الموضوع لا علاقة له بالتشاؤم. انظر ماذا يجري حولنا. كل يوم تصادر أرض جديدة، ويهدم بيت، ويبدأ إنشاء مستوطنة جديدة، وتوسع مستوطنة قائمة، وتسحب هويات وتقسّم عائلات، وتصدر قوانين تساعد على تهجير الفلسطينيين بينما يستجلب مهاجرون جدد ليكونوا مستوطنين جدداً... ماذا ترى في هذه الوقائع اليومية، ألا تدفع على التشاؤم، وتشي بأن «المتغيرات» التي قد تقع ليست في صف إستراتيجية «البقاء في الملعب» على النحو الذي وضحته؟
عند هذا الحد من الحوار، لاحظت أن زميلي بدأ يفقد حججه، ولاحظ هو أنه لم يقنعني بصوابية إستراتيجية «البقاء في الملعب» العبقرية، فعلا صوته قليلاً، وقال: قل ما هو البديل؟ إنها اللعبة الوحيدة في المدينة. هل يملك أبو مازن، أو غيره، بديلاً؟ ولا تقل لي إن البديل هو المقاومة المسلحة، فهذه لم يعد أحد يفكر فيها، على الأقل لم يعد هناك من يقدر على ممارستها.
قلت: من الواضح أن أبا مازن لا يملك بديلاً، لكن كثيرين غيره قد يملكون، ومن أجل أن أجاريك لن أقول لك إن المقاومة المسلحة هي البديل الفوري، لكن لا بد أن يكون هناك بديل يُبقي على الأمل، طالما أن الإستراتيجية الحالية تقضي على آخر ما بقي منه في مواجهة العدو المندفع في تنفيذ كامل مخططاته.
قال: قل، مثل ماذا؟
قلت: مثل الانسحاب من الملعب. مثل وقف وإنهاء «المباراة» الفاشلة . لماذا لا ندع الأمور تعود إلى طبيعتها لنرى ماذا يحدث؟ ألا يمكن أن يكون في هذا التمهيد لما أسميته «المتغيرات»؟
قال: لم أفهم. ماذا تعني أن «ندع الأمور تعود إلى طبيعتها»؟
قلت: باختصار وبوضوح، أبو مازن ومؤيدوه يريدون «دولة فلسطينية في حدود 1967»، أليس كذلك؟
قال: نعم.
قلت: أليست هذه الأرض تحت الاحتلال، ومعها الشعب التي عليها؟
قال: نعم.
قلت: عودتها إلى طبيعتها، أي إلى ما هي عليه واقعاً، تعني التخلي عن «اتفاق أوسلو»، وحل السلطة، تعني وضع الاحتلال في مواجهة الشعب.