مصنوع في «سي.آي.إي» Made in CIA
عندما اعترض السيد جورج دبليو بوش (أخبار 10/8/2008) على التدخل العسكري الروسي في القوقاز، قال: إن جورجيا دولة ذات سيادة، ولا يسمح للروس بانتهاك سيادتها. لكن ألم يكن العراق دولة ذات سيادة، عندما احتلته القوات الأمريكية؟ ألم تكن أفغانستان دولة ذات سيادة قبل الغزو الأمريكي ـ الأطلسي؟ ألم تكن يوغوسلافيا دولة ذات سيادة قبل تمزيقها أمريكياً وأطلسياً؟ والقائمة تطول وتتسع إلى أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا، بل وأوربا.
العراق بعيد آلاف الكيلومترات عن الولايات المتحدة، واحتلته الإدارة الأمريكية بذرائع عديدة، ومنها أنه يهدد الأمن القومي الأمريكي (دولة صغيرة ضعيفة محاصرة تهدد الأمن الأمريكي(؟))، بالمقابل جورجيا كانت جمهورية سوفيتية، قدم لها، ولأبنائها، الاتحاد السوفييتي الكثير، وحولها عملاء المخابرات المركزية الأمريكية إلى دولة ذات إدارة رجعية مليئة بالتناقضات والمجازر الطائفية (العرقية والدينية) ومرشحة لدخول الحلف الأطلسي أي لمد الأطلسي إلى القوقاز، وكانت عدا ذلك ممراً للإرهاب الطائفي، الذي صنعته الإدارة الأمريكية ووزعته على العالم، وأصبح من الجملة يزعزع الأمن في أكثر من منطقة روسية، ومرشحاً ليكون أداة في تمزيق روسيا. هل هذا يهدد الأمن الروسي؟ وهل يجب أن تقف روسيا تجاهه موقف المتفرج؟
الأهم من ذلك هو القول، إن الإدارة الأمريكية لا تسمح...، بأي صفة هي لا تسمح؟ بصفة الجلاد، الذي ارتكب الإبادة ومايزال في دول أمريكية لاتينية عديدة، وفي الشرق الأوسط وغيره؟ روسيا هي غير العراق وغير أفغانستان وتستطيع، إذا أرادت، أن توجه صفعة تاريخية للجلاد.
قد لا يكون المرء مع انفصال أوسيتيا، أو أبخازيا، ويجب ألا يكون مع تمزق دول العالم وتحولها إلى بانتوستانات (مشيخات)، لا ينال شعوبها من الانفصال سوى البؤس والعبودية، ولكن يجب ألا يكون ضد التمزق المشيخي في الجانب الروسي فقط، وإنما بالدرجة الأولى في الجانب الأمريكي، حيث الكوارث «المشيخية» تحل في كل مكان بدءاً من تيبت الصين، مروراً بكشميرات الدول الثلاث، الصين والهند وباكستان، وبالعراق وفلسطين، حتى أجزاء يوغوسلافيا السابقة.
العالم بحاجة إلى أمور كثيرة. لسنا هنا في صدد تعدادها، ولكنه بحاجة قبل كل شيء إلى السلام.
والسلام لا يفترض وقف القتال فقط، وإنما هو غير ممكن، إلا برفع النير الإمبريالي عن شعوب العالم.
التقيد من حيث المبدأ بميثاق الأمم المتحدة ووجود شراكة حقيقية بين أمم العالم في مجلس الأمن، واحترام سيادات الدول، وحريات الشعوب غير المشيخية، يمكن أن يكون كل ذلك مقدمة لحلول عصر من السلام على العالم. ولكن هل تقبل الإدارة الأمريكية أن تتصرف بمعزل عن ترساناتها التدميرية والمالية والإعلامية، وأن تحترم القانون الدولي والاتفاقات والأعراف الدولية، بتفسير يحترم الدول والبلدان والشعوب؟ لو كانت تقبل الإدارة الأمريكية بذلك، فإنها تعطي حينئذ الإنسانية فرصة تاريخية للخلاص. غير أنها لا تقبل، ولن تقبل.
والإدارة الروسية، بعد أن هدمت كثيراً وقليلاً بناء الاتحاد السوفييتي الشامخ، وجدت نفسها محشورة في الزاوية. لقد عملت الإدارة الأمريكية، وتعمل، على تمزيق روسيا، وإنهائها، كما عملت على تمزيق يوغوسلافيا وإنهائها، غير أن المهمة هنا أصعب كثيراً. وامتداد الأطلسي إلى البلدان الاشتراكية السابقة وإلى الجمهوريات السوفييتية السابقة هو سعي حثيث من أجل مهمة تمزيق روسيا.
وروسيا ربما تحاول بطريقة أو بأخرى، الدفاع عن نفسها. وهذا الدفاع عن النفس ضروري ضرورة حيوية، ليس فقط من أجل روسيا وإنما أيضاً من أجل إضعاف النير الإمبريالي، عسى ذلك يساعد تدريجياً على تحرر شعوب العالم.
ولكن روسيا لا تستطيع الدفاع المجدي عن النفس، بالعمل على أن تكون منافساً للإدارة الأمريكية، كدولة تجاه دولة، وفي العالم. الدفاع المجدي عن النفس يقتضي من الإدارة الروسية، أن تكون نقيضاً، لا منافساً، للإدارة الأمريكية.
الإدارة الأمريكية هي ضد البلدان وضد الشعوب، وتعتبرها مجرد فريسة. أما الإدارات المصنوعة في سي.آي.إي، فليست أكثر من موظفين، يجب أن ينفذوا، وعلى مسؤولياتهم، دون أي ضمانة لهم، أوامر الإدارة الأمريكية. أي إذا ما سقطوا، فليأت غيرهم. إذا سقط واحد مثل شيفارنادزه، فليأت غيره (؟).
والتنافس يعني العمل على تقاسم الكعكة الاستعمارية، كأن تكون الإدارة الأمريكية في منطقة ما من العالم، وتكون الإدارة الروسية في منطقة أخرى. الإدارات الأوربية، مثلاًً، تكتفي بفتات الكعكة، وتدفع مقابل ذلك مختلف الفواتير المادية والمعنوية للإدارة الأمريكية.
أما التناقض مع الإدارة الأمريكية فيقتضي التعامل غير الاستعماري مع البلدان والشعوب، أي احترام السيادة للبلدان واحترام الحرية للشعوب (للشعوب لا للإدارات...). هل تستطيع الإدارة الروسية التناقض، لا التنافس، مع الإدارة الأمريكية؟
في الصراع العدواني من جانب الإدارة الأمريكية، والدفاعي من جانب الإدارة الروسية، يختلط الاستعماري بالتحرري، ولكن الفصل الواضح بين الأمرين له علاقة بنتيجة الصراع.
الإدارة الأمريكية لديها تحت تصرفها قوة هائلة أسطورية وطنية واستعمارية، ولكي يمكن الوقوف في وجه تلك القوة، لا يلزم فقط السلام والامتداد والاقتصاد، وإنما أيضاً وبالدرجة الأولى، تلزم الشعوب. يلزم أن تتوجه أنظار الشعوب المضطهدة نحو الإدارة الروسية.
بمقياس السلاح يمكن أن يتعادل الطرفان بالترسانات العسكرية، وبالمقاييس الأخرى يمكن أن ترجح الإدارة الأمريكية بقوتها الاستعمارية، والوقوف في وجهها غير ممكن، إلا بمساعدة الشعوب.
هذا ليس سهلاً، وليس كلمة تقال، ولكنه هو الوسيلة الوحيدة للتخلص من النير الإمبريالي العالمي.
الإدارات المصنوعة في سي.آي.إي تقف في وجه الشعوب وتحول بينها وبين مواجهة الإمبريالية: إنها الماكينة، التي تؤلف جزءاً لا يتجزأ من القوة الاستعمارية للإمبريالية.
والتناقض مع الإدارة الأمريكية هو بالضرورة ومن الجملة تناقض مع تلك الماكينة.