وساطة برسم الاستثمار..
جاء اجتماع أحزاب «الاشتراكية الدولية» في اليونان مؤخراً، كخبر عادي ضمن وسائل الإعلام المتنوعة، بسبب الطبيعة الروتينية/النمطية لتلك اللقاءات، وكتعبير عن حالة القوى المؤتلفة في إطارها. لأن هذه التشكيلات الحزبية والسياسية، كانت قد فقدت منذ عقود دورها المؤثر في ميادين النضال السياسي والاجتماعي، إضافة لوجود بعض الأحزاب التي تشكلت على قتل وإقصاء السكان الأصليين، وإحلال غزاة جدد قادمين من قارات العالم مكانهم «حزب العمل الصهيوني نموذجاً». فمعظم هذه القوى كانت قد غادرت منذ سنوات طويلة تسميتها الشكلية. إذ لم يبق من اشتراكيتها سوى مايتضمنه اسمها. فالبرامج النظرية، والممارسات السياسية/الاجتماعية لهذه الأحزاب والمنظمات، أصبحت معادية تماماً لمضمون النظرية/الإيديولوجيا الاشتراكية، بل تحولت في غالبيتها إلى أدوات مأجورة، تقوم بدور الوكيل المحلي لتنفيذ المشروع الامبريالي.
لكن المصافحة العلنية التي جمعت جلال طالباني المسمى رئيس جمهورية العراق، ومجرم الحرب الصهيوني باراك، بترتيب مسبق من محمود عباس، شكلت الحدث الأبرز الذي استقطب أنظار المهتمين بقضايا الصراع وتجاذباتها بالمنطقة. الصور التي تم توزيعها وتداولها، أبرزت للمرة الأولى «حميمية ودفء العلاقة بين الرجلين». فتطور العلاقات بين قيادات الحزبين المتسلطين على حكم شمال العراق، مع حكومات العدو الصهيوني المتعاقبة، ليست سرية أو مكتومة. بل أن العديد من الكتب والدراسات تشير إلى بدايات مبكرة في هذه العلاقة. فقد أشار الكاتب الصهيوني «شلومو نكديمون» في كتابه «الموساد في العراق ودول الجوار» الذي صدرت ترجمته عن دار الجليل للنشر في عمان عام 1997 إلى تاريخ ارتباط الحركة الكردية الانفصالية المسلحة بالمخابرات الإسرائيلية (موساد) فيقول (إن ثمة بدايات في الثلاثينيات والأربعينيات. إلا أن العلاقة انتظمت بصورة رسمية منذ عام 1951 عبر ممثل الحركة في باريس كامران علي بدرخان الذي كان مرتبطاً بمساعد الملحق العسكري «الإسرائيلي» في باريس ويتسلم منه راتباً شهرياً). من هنا فإن لقاء أثينا الأخير، جاء تتويجاً علنياً لمسيرة عقود من الزمن بين الطرفين.مما دفع بعدة مصادر صهيونية في فلسطين المحتلة لاعتبار ماتحقق على يد الوسيط الفلسطيني يوم الاثنين 30/ 6 /2008 بأنه حدث هام، لكون هذه «المصافحة التاريخية» كما تدعي تلك المصادر، تأتي علنية بين مسؤول «إسرائيلي» كبير و«رئيس عراقي».
لن نتوقف كثيراً عند الصفة الرئاسية للطالباني، التي جاءت كـ«مكرمة» احتلالية، أسبغتها عليه قوات الغزو نتيجة الخدمات الواسعة التي قدمها- ومازال- للمحتل. ولهذا فقد جاء البيان الصادر عن مكتب طالباني «الرئاسي»، كمحاولة مكشوفة لامتصاص النقمة الشعبية تجاه ذلك اللقاء (إن استجابة طالباني لطلب عباس بمصافحة باراك جاءت في ظل تعامل طالباني مع الأمر بصفته الأمين العام للاتحاد الوطني الكردستاني ونائب رئيس الاشتراكية الدولية، وليس بصفته رئيس جمهورية العراق). شارحاً المصافحة الطالبانية الحارة بأنها (سلوك اجتماعي حضاري لا ينطوي على أي معنى أو تداعيات أخرى، و لا يُحمّل العراق «الدولة» أية التزامات، كما إنه لا يؤسس لأي موقفٍ مغايرٍ لسياسات جمهورية العراق وتوجهاتها ومواقفها الداعمة للشعب الفلسطيني والسلطة الوطنية الفلسطينية والمستندة إلى الإجماع العربي والمبادرة العربية ومقررات الشرعية الدولية). لقد أصبح في حكم المؤكد عند جميع المهتمين بقضية النضال التحرري لشعب العراق، من أن تلك المصافحة بين الرجلين، جاءت متساوقة ومنسجمة مع تطور العلاقات بين الحكومة الانفصالية و(قيادتي) حزبيها في شمال العراق، وكيان العدو الصهيوني. فهذه الحكومة فتحت أراضيها لنشاط الآلاف من عناصر «الموساد» الذي يتحركون تحت سمع وبصر «البيشمركة»، تحت تسميات تجارية، وخدماتية متعددة، إضافة إلى التنسيق الدائم بين الطرفين في مجالات التدريب والدعم اللوجستي المتبادل، مما يعني تحويل هذه البقعة الغالية من الوطن العراقي إلى مركز للتآمر على شعب العراق ودول الجوار. إن ماجرى في أثينا، لم يكن سوى التعبير الأكثر استفزازاً للمشاعر والمواقف التي يحملها شعب العراق العظيم بعربه وكرده، تجاه قضية فلسطين، القضية المركزية للنضال التحرري، كما جاء على لسان الشيخ «جوهر الهركي» أمين عام حزب الحرية والعدالة الكردستاني، أثناء تعقيبه على تلك المصافحة.
لقد أدى دور الوسيط/ السمسار الذي لعبه عباس لإشاعة لغط كبير في الحالة السياسية العربية وبالتحديد الفلسطينية منها. لأن مكمن الخطورة في تأدية هذا الدور تأتي من السقوط المريع لهذا النهج الذي يصر على تقديم نفسه «عَرّاباً» لعملية إدخال الكيان الاحتلالي المجرم، في المنظومة السياسية والاجتماعية في وطننا العربي الكبير. إن شعب فلسطين وقواه السياسية المناضلة، شكلت على امتداد سنوات المجابهة لهذا المشروع الاستيطاني/ التوسعي، رأس الرمح في كل معارك التصدي لوجوده وتمدده، وكانت الإطار الذي احتشدت داخله العديد من القوى العربية والعالمية. إن محاولة البعض ممن يعتقدون أنهم يمثلون هذا الشعب، تحويل هذا الدور الكفاحي المشرف للشعب الفلسطيني، إلى «ممر» و«جسر» تعبر من خلاله الغزوة الصهيونية للأقطار العربية، سيخرجون بخداع للذات قبل بيع الوهم للشعب. لأنهم بفعلتهم هذه، لايسيؤون للشعب والقضية، بمقدار مايسيئون لأنفسهم.
لقد جمعت تلك المصافحة بين أياد تتشارك في مخطط واحد. فيد «باراك» مازالت في كل يوم تمارس إجرامها ووحشيتها، ولذلك مازالت تقطر دماً عربياً. فهذه اليد هي التي قتلت القادة الفلسطينيين في بيروت «الطلقات في فم الشهيد الشاعر كمال ناصر شاهدة على الجريمة»، وهي ذات التي تخطط للعدوان والدمار في فلسطين والمنطقة. أما يد «مام جلال» فيعرف دورها، ولونها «الأحمر» أبناء الشعب العراقي، بأكراده أولاً، وعربه ثانياً. ولهذا فالمصافحة والوساطة، كانت وستبقى وصمة العار «التاريخية».