الإعصار قادم..
في تزامن- يثير الدهشة- مع ما صرح به أوباما حول المخاطر التي تهدد النظام المالي الأمريكي، خرج نائب محافظ البنك المركزي المصري بتصريح توقع به عودة الاستثمارات إلى السوق المصرية خلال النصف الثاني من العام الحالي، ودلل على ذلك بـ«إعلان مستثمرين مصريين في أوربا رغبتهم في نقل استثماراتهم من بنوك سويسرا وأمريكا.. إلى البنوك المصرية» واستطرد في توقعاته المتفائلة جداً– على غير أساس– ودون أي تعليل مقبول.
في هذا التصريح نفسه قدر نائب محافظ البنك المركزي أن الاستثمارات الأجنبية التي خرجت من مصر بسبب «الأزمة المالية العالمية» بحسب تعبيره قد تراوحت ما بين 8 و10 مليارات دولار. وأضاف أن هذا الخروج تمثل في «سوق السندات التي فقدت نحو 90% من مستثمريها».
وبينما كانت الحكومة تردد بإصرار إلى أسابيع قليلة مضت أن نسبة النمو تصل إلى 7% ، إلا أن مديرة بالبنك المركزي توقعت أن معدلات النمو تتراوح بين 4 و4.5% . في التوقيت ذاته اعترف رئيس الوزراء أن النمو سيكون في حدود 3.5% فقط . فأين الحقيقة؟
رغم قتامة الصورة إلا أن المسؤولين لا يزالون يصرون على ضخ تفاؤل كاذب حول الواقع وإن تفاوتت تقديراتهم المتفائلة. لكن الوجه الآخر لم يعد من الممكن إخفاؤه، إذ «اعترف الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أن 88 ألف مواطن قد انضموا خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة إلى شريحة العاطلين عن العمل، لترتفع نسبة البطالة في مصر إلى 8.8% بزيادة 0.2% عن الفترة نفسها من العام الماضي». وبأن «عدد العاطلين عن العمل في مصر بلغ 2.2 مليون مواطن». كما أكد التقرير حول (قوة العمل في مصر) خلال الربع الأخير من عام 2008 بأن الحاصلين على المؤهلات الجامعية والشهادات المتوسطة يمثلون 92.7% من إجمالي العاطلين».
توقع مركز تحديث الصناعة في دراسة له تسريح نصف مليون عامل خلال العام الحالي. وبينما أكد الصندوق الاجتماعي للتنمية أنه قد تم فصل 150 ألف عامل مصري من دول الخليج، فإن عدداً من أفراد الجالية المصرية في دولة الامارات قد ذكروا، بحضور مساعد وزير الخارجية للشؤون القنصلية، أن عدد العمال المفصولين في الامارات بلغ 150 ألف عامل ولم يقم هذا المسؤول بنفي الخبر أو تأكيده. غير أن السفير المصري في الامارات أكد أن العمال المصريين هناك بخير ولم يتم الاستغناء سوى عن عدد قليل جداً منهم!! ولا شك أن إخفاء الحقيقة في هذا الأمر لن يستمر طويلاً، إذ أن عودة العاملين في الخليج سوف يكون حدثاً مدوياً لأنه سيفاقم الأزمة إلى أبعد الحدود.
لكن سلطة الطبقة الرأسمالية التابعة النهابة تعمد إلى إلقاء اللائمة على الآخرين مثل الحديث عن الأضرار الناجمة عن السياسات الحمائية التي بدأت بعض البلدان العربية في تطبيقها.
وسط هذه الطروحات المتناقضة بهدف زرع حالة من الالتباس والبلبلة المتعمدة، فإنهم يقومون بتصدير المفاهيم المنحازة كلية لمصالح رأس المال. من ذلك ما ذكره مدير مركز تحديث الصناعة، من أن «القطاع الخاص لا يستطيع تحديد المدة التي يمكن خلالها الاحتفاظ بالعمالة». ويتابع «القطاع الخاص لا يتحمل عبء الحكومة ودورها تجاه العمالة»، موضحاً «أن قانون العمل لا يسمح بتسريح العمالة المؤمن عليها، مما يمثل عبئاً على شركات القطاع الخاص» وطالب الحكومة «بضرورة تعديل قانون العمل بما يمنح الشركات مرونة في تسريح العمالة خلال الأزمة المالية العالمية...»!!
لم يجد رئيس الوزراء من حل سوى تشكيل مجموعة وزارية من الوزراء أنفسهم الذين صنعوا الأزمة «بهدف بلورة عدد من المشروعات الكبيرة ذات الجدوى الاقتصادية العالمية التى توفر المزيد من فرص التشغيل». أي أنه أعطى أفكاراً عامة ومجردة دون أن يتطرق إلى ضرورة وقف نزيف خصخصة الأصول المصرية وطرد العمال بمئات الآلاف.
إذا كانت النسبة الحقيقية للبطالة في مصر تصل إلى أضعاف النسبة التي يعلنون عنها رسمياً (إذ تقدر دراسات جادة أنها تصل إلى 30% من قوة العمل) فماذا ستكون عليه الحال بعد عمليات التسريح المحمومة الجارية حالياً، إلى جانب مصيبة الطرد بما يسمى الاحالة للمعاش المبكر، مضافا لكل ذلك قدوم أكثر من 2 مليون عامل من بلدان الخليج... الخ؟
لقد شهدت البلاد مؤخراً وخلال عام واحد أكبر عدد من الإضرابات في تاريخ مصر- وربما المنطقة- إذ وصلت إلى 1250 إضراباً، بعضها مستمر أو متقطع طوال شهور، ولا تنحصر المطالب فقط في تحسين الأجور أو الحوافز، ولكن بسبب عدم الحصول على الأجور ذاتها لشهور عديدة.
كانت الإضرابات في الماضي تكاد أن تكون عمالية صرفة، وإلى جانبها الإضرابات الطلابية. لكنها امتدت في الفترة الحالية إلى الموظفين والفئات الأخرى. آخرها الآن تظاهر وإضراب 2900 موظف ومهندس زراعي بالاصلاح الزراعي في ثلاث محافظات بسبب عدم صرف حوافز سبق وأن قررتها الوزارة.
إضراب آخر (نوعي) لطلاب المعهد العالي للتكنولوجيا بمدينة «بنها»، وهو معهد مناظر لكليات الهندسة، وتابع لوزارة التعليم العالي، وعدد طلابه 3500 طالب، دخل منهم 350 طالباً اعتصاماً مفتوحاً بمقر المعهد منذ 23 يوماً وحتى الآن، وسيدخلون إضرابا عن الطعام، وذلك بهدف مساواتهم بنظرائهم خريجي كليات الهندسة.
ما يحدث في البلاد ليس نتيجة لأخطاء في السياسة، وليس نتيجة الجهل. لكن ما حدث ويحدث هو سياسات سلطة طبقية تعي ما تفعل. إنه جريمة مع سبق الاصرار والترصد (بتعبير رجال القانون).
إننا ندفع ثمناً باهظاً نتيجة قتل خط التنمية المستقلة ودفع البلاد إلى التبعية المطلقة، بما أنتجه ذلك من خراب اقتصادي وتدمير للبنية الاجتماعية والثقافية وتهديد للأمن القومي...الخ. كل ذلك من أجل تجريف الثروة الوطنية لصالح عدد قليل من الأسر المصرية والرأسماليين الأجانب والصهاينة. وهو ما سيؤدي إذا ما استمرت سلطة الطبقة الحاكمة إلى تجريف البلاد من شعبها، ليس باتجاه الخارج بحثاً عن لقمة العيش، وإنما باتجاه القبور. إنهم يقتلوننا!
إن الإعصار الذي بدأ في التشكل في 6 ابريل 2008 لم يتوقف، وسوف تزداد حدته في 6 ابريل القادم (يوم الغضب المصري). إن البلاد في طريقها إلى الانفجار الشامل، ولن يوقفه شيء سوى إلقاء هذه الطبقة الحاكمة (الغاصبة للثروة والسلطة) في مزبلة التاريخ.