في أحابيل الحروب المباشرة وبالإنابة..
وصول درجة التوتر بين واشنطن وطهران إلى ذروة نوعية، من تلويح بعقوبات جديدة وحلول عسكرية لما يعرف بالملف النووي الإيراني، لا يعني بالضرورة أن الأولى باتت بصدد شن عدوان مباشر على الثانية بمعنى الآجال الزمنية خلال فترة وجيزة، لأن الطرفين على الأرجح لايزالان في طور «شد الحبال» قبل الانتقال إلى اختبار «عض الأصابع» لحسم من «سيستسلم أولاً» (!) علماً بأن الحسابات هنا ليست بهذه البساطة على اعتبار أن جميع الأطراف الدولية تدرك، ولاسيما واشنطن وربيبتها إسرائيل، أن الحرب ليست، ولن تكون، لعبة، لأنها إن شُنت ستؤدي إلى تغيرات درامية في المشهدين الإقليمي والدولي، بما في ذلك احتمالان، أولهما توجيه ضربة جدية لمنظومة القوة الأمريكية والوجود العسكري الأمريكي بحد ذاته في المنطقة والعالم، وثانيهما زوال ما يسمى بالكيان الإسرائيلي، وإلا القضاء على منظومات القوة الإيرانية والعودة ببنية الدولة والنظام هناك إلى الوراء باتجاه موالاة واشنطن كتحصيل حاصل، شريطة حصول المعتدين على تسهيلات ما للمخاطرة بدخول الحرب وضمان كسبها. أما في حال تعقل حكام واشنطن وتل أبيب باتجاه عدم شن الحرب فعليهم آنذاك القبول بإيران، قوة نووية في المنطقة، أي أنهم أمام خيارين أحلاهما مر..!
إذا كان هذا هو الإطار المنطقي للمسألة، فلنر الأدوار التي تلعبها القوى الإقليمية والدولية:
باريس تترأس حملة التصعيد الدولي ضد إيران باتجاه فرض عقوبات دولية جديدة عليها تمهيداً لاندلاع مواجهة عسكرية ستنعكس، خدمة لفرنسا وأوربا عموماً من منظور التنافس وتضارب المصالح، وعبر استعارة مبدأ «الاحتواء المزدوج» من أرشيف السياسات الخارجية الأمريكية ذاتها، سينعكس على إضعاف واشنطن وطهران عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، حتى وإن كان هذا البعد الأخير سيرتد كآثار جانبية على أوربا، ولكنها ستقبل به، كثمن سيكون عابراً، في نهاية المطاف مقابل المكاسب المذكورة أعلاه.
في روسيا، وبغض النظر عن الموقف التصعيدي المتوقع من الخارجية، فإن شبه الانقلاب في موقف المؤسستين العسكرية والأمنية من إيران يوحي بأن الكرملين يستهدف الوصول للغاية ذاتها، على اعتبار أن ضعف واشنطن في أية حرب جديدة على أرض ثالثة مع احتمالاتها، سيؤجل الهدف النهائي للولايات المتحدة والمتمثل في القضاء على التهديد الاستراتيجي الروسي، والذي تظهر معالمه بين فينة وأخرى في الاضطرابات المشبوهة التي تشهدها دول آسيا الوسطى وبعض جمهوريات الاتحاد الروسي، أي ضمن الحدود الجيوستراتيجية الروسية. ومن هنا ينبغي فهم موقف وتصريحات مجلس الأمن القومي الروسي وهيئة الأركان الروسية، والتي ربطت في يوم واحد بين «نفاد الصبر مع طهران» من جهة، وكون «الدرع الأمريكي وتوسع الناتو شرقاً يمثلان تهديدين جديدين لروسيا» من جهة ثانية، مع الاحتفاظ بمسافة عن واشنطن في تفضيل الحلول الدبلوماسية، لا العسكرية مع طهران..!
تركيا ومن منظور مصالحها كقوة إقليمية صاعدة وفاعلة لا يبدو، رغم تصريحات التهدئة الدبلوماسية من وزارة خارجيتها، أنها تمانع في اندلاع حرب محسوبة، شريطة أن تنهي إيران كقوة إقليمية منافسة أو تلهيها، وبدون نتائج مباشرة على الداخل أو المصالح أو الأدوار التركية، التي تتوسع في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى والبلقان.
في المقابل، لا يبدو أن الصين، التي تصنف بكونها من أكبر الاقتصادات الناشئة، تؤيد اندلاع أية حرب في أي مكان في العالم، بما في ذلك منطقتنا، كون ذلك سيؤثر على اقتصادها وصادراتها، وأيضاً على الأرقام «الفلكية» لحجم تبادلها التجاري مع طهران. وربما لم يكن من قبيل المصادفة مطالبة كبار ضباط الجيش الصيني، هذه المرة من دون سواهم، ببيع سندات الدين الأمريكي من باب الرد على صفقة الأسلحة الأمريكية مع تايوان، ولكنه تحرك لا يغيب عنه فيما يبدو، تزامنه مع التهديدات الأمريكية لإيران، بما سيؤثر في حال تنفيذها على المصالح الإستراتيجية لبكين.
أما الجانب الرسمي العربي، المستهدفة منطقته وتخومها بالعدوان مباشرة، فلا حياة لمن تنادي، كالعادة، وليس هناك من تحركات تدرأ الخطر المحتمل عن الشعوب العربية، فهم وقود لمصالح بعض النظم العربية التي باتت في «أمريكيتها» و«إسرائيليتها»، مَلَكية أكثر من المَلك..!
السؤال الذي يطرح نفسه: ما معالم ومصادر قوة إيران وجرأتها؟
أولاً، التقاطها للحظة التاريخية التي تتفاقم فيها الأزمة الاقتصادية العالمية- الأمريكية- الدولارية، وزيادة غرق واشنطن في مستنقعها العسكري في أفغانستان والعراق، ونظيره الإسرائيلي في لبنان وغزة، على مبدأ شن الحروب بالوكالة مع أطراف عربية وإقليمية ودولية عدة، وعجزهما بالتالي عن خوض مغامرة عسكرية جديدة، إلا إذا كانت انتحارية، أو محسوبة النتائج إلى حد كبير، على الأقل في لحظة الدخول بها.
وهذا ما سمح لإيران، ثانياً، بأن تسارع من وتيرة الكشف تباعاً عن منجزاتها العلمية والنووية والعسكرية الجديدة. وهنا يلاحظ في العموم أن «تصعيد» الخارج تزامن مع بروز معالم تمكن تيار خامنئي- أحمدي نجاد من حسم اضطرابات الداخل باتجاه تهدئتها وتفكيك البنية الداخلية «للـمعارضة»، وهو ما قد يكون على المقلب الآخر محاولة من واشنطن لـ«تنويم» الخلايا الموالية لها بانتظار العودة «للعمل» في فترة التفجير العسكري المباشر.
أما ما يهمنا مباشرة كسوريين، على اعتبار أن القضية تندرج في إطار المصالح، وعلى اعتبار أنه «نالنا من (حب) التهديدات جانب» فهو ضرورة الاستعداد الشامل لكل الاحتمالات، ولاسيما أن سورية لا تطرح نفسها كقوة إقليمية منافسة، بل في إطار تكاملي يجمعها مع بقية الجبهات المستهدفة بالعدوان مباشرة واعتماد مبدأ «دمينو التفجير» معها، أي إيران وقوى المقاومة والممانعة الوطنية في لبنان وفلسطين المحتلة، والعراق على خصوصيته (التي تحتاج مستجداتها إلى بحث منفصل لاحقاً). وبطبيعة الحال فإن التحضيرات السياسية، والشعبية بما فيها اقتصادياً واجتماعياً، ستكون العنصر الأبرز في كسب المعركة إذا ما اندلعت، وهي تحضيرات ترتدي أهميتها واستحقاقاتها إذا ما كان سيترتب على المواجهة كاحتمال تاريخي قوي، إزالة دولة الاحتلال وأشباهها.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.