شايلوك.. يأتينا من جديد (2)
رأينا في المقال السابق كيف كان اقتحام رأس المال اليهودي لمصر. ونورد في هذا المقال ما طرأ من تطورات على هذا الاقتحام.
الاقتحام من أعلى ومن أسفل:
كان رأس المال اليهودي قد مكن لنفسه في البلدان الرأسمالية الأوربية، حيث تشكلت «عصبة البنوك اليهودية العليا» حيث كانت معظم بيوت المال والمصارف اليهودية التي انقضت على مصر تشكل أساساً عضوياً لها.
لجأ الخديوي إسماعيل إلى التوسع في إصدار أذون الخزانة وسنداتها، واندفعت البنوك والمصارف والجماعات الربوية المحلية تكتتب لحساب المصارف والبيوت المالية اليهودية في الخارج، والتي كانت ترفع أسعار الخصم، حيث يقتسم اليهود الآجانب والمحليون العائد الهائل، وتفاقم الأمر بعد لجوء المصريين وعلى رأسهم الخديوي إلى سياسات الاقتراض قصير الأجل حيث وصل سعر الخصم الى 50%.
في الوقت ذاته تأسست شركة مركزها لندن بمساعدة «هنري أوبنهايم» تحت مسمى «شركة السودان» بهدف تنمية مشروعات التوسع في زراعة القطن في مصر والسودان لحساب مشروعات النسيج في بريطانيا، حيث كانت تقوم باقراض الفلاحين بضمان المحصول.وهكذا اكتملت الدائرة للانتقال إلى مرحلة جديدة.
مرحلة بدء تجريف الأصول (و/أو) الهيمنة عليها:
بدأت العملية عام 1870 حينما قام الخديوي باقتراض 1.5 مليون جنيه عن طريق «بيت أوبنهايم» من سوق لندن مقابل سندات على الخزانة المصرية مضمونة بايرادات السكك الحديدية.
وتحت الإغراء واصل الخديوي اسماعيل الاقتراض إلى حد رهن أسهم الحكومة المصرية في شركة قناة السويس.. حينها قام هنري أوبنهايم بإبلاغ رئيس وزراء بريطانيا «دي إسرائيل» المشهور باسم «دزرائيلي» لسرعة التفاوض مع «بيت روتشيلد» لتمويل عملية الشراء قبل أن تشتريها المجموعة الفرنسية. وفازت حكومة «دي إسرائيل» بعملية الشراء قبل عرض الأمر على مجلس العموم البريطاني.
وتواصل تورط الخديوي في الاقتراض إلى حد عقد قروض بضمان دائرته (أي الأراضي المملوكة له) حتى تم إعلان إفلاسه عام 1876.
تشكل واكتمال مقدمات الاحتلال البريطاني لمصر(1882):
وصلت ديون الحكومة المصرية إلى أكثر من 77 مليون جنيه لم تتسلم منها سوى 55 مليون أي بنسبة 75% تقريباً. ثم تم توحيد ديون الحكومة وديون «الدائرة» وتأسس صندوق الدين.
في هذا السياق نمت البنوك اليهودية المحلية وقامت بتوسيع التمويل بضمان المحاصيل الزراعية، وتمويل 35 شركة لتصدير القطن منها 34 شركة أجنبية.
تلاحمت قوى التمويل اليهودي والتسويق الأجنبي واقتصاديات المزارع المحلية. وأنتجت مرحلة نوعية جديدة في الهيمنة الاقتصادية على البلاد. وكانت الهيمنة وصندوق الدين هما فاتحة احتلال مصر بعد سنوات قلائل، وصعود هائل ومتسارع في هيمنة رأس المال اليهودي.
تطور كمي وكيفي في الانقضاض:
لم تعرف مصر الملكية الخاصة للأرض الزراعية سوى في عهد «سعيد باشا» والي مصر. وقد مارست الجماعات الرأسمالية اليهودية ضغوطاً كبيرة على «إسماعيل» لتصفية أراضي دائرته الخاصة، وكذلك أراضي «الدومين العام» (أراضي الدولة) وبيعها إلى كبار الملاك الجدد. ومن خلال تمويل هؤلاء الملاك لشراء الأرض وانخفاض أسعار القطن لأسباب حقيقية ومفتعلة، تراكمت عليهم الديون، حيث وصلت مديونياتهم إلى 80% من المحفظة المالية المشتركة لبنوك الكريدي فرنسيه والمجموعات البنكية العقارية للبيوت اليهودية (منشة– موصيري– عاداه– سوارس). إلى جانب البنك العقاري المصري الذي تأسس عام 1880 حيث لعبوا جميعاً دوراً في تصفية الملكية العقارية في البلاد بما اكتسبوه من حقوق في بيع أراضي المدينين، بدعم من وزير المالية «رياض باشا» وهو يهودي تونسي اعتنق الاسلام!! وكانت تربطه علاقات وثيقة بالجماعات المالية اليهودية الفرنسية. وننوه إلى أن رياض باشا وقبل أن يتسلم الوزارة كان قد طلب من روتشيلد أن يعمل على كسب ود الطبقة الجديدة من المصريين كبار ملاك الأراضي وعدم الضغط وفرض شروط على مديونياتهم، لذا فإنه حين بدأ يتصاعد المد الثوري وبدايات الثورة العرابية فقد عرض روتشيلد على «عرابي باشا» منحه 100000 (مائة ألف) فرنك سنوياً مدى الحياة إذا توقف عن تمثيل مصالح صغار «كبار الملاك» وترك مصر. لكن عرابي رفض العرض. وتولى رياض رئاسة الوزراء بعد هزيمة الثورة العرابية مباشرة واحتلال بريطانيا لمصر.
ولإكمال الهجمة على القطاع الزراعي فإن المجموعة الفرنسية العاملة في البنك العقاري المصري (أسرة سوارس التي رحلت عن مصر إلى فرنسا إبان الثورة العرابية) تشاركت مع عائلة «قطاوي» ومجموعات إيطالية لتأسيس «بنك سوارس» عام 1886 لإقراض صغار «كبار الملاك» المصريين. لقد توزعت الأدوار!
ركائز جديدة لاستكمال الهيمنة وإحكامها:
تم تأسيس البنك الأهلي المصري عام 1898 في إطار التنافس البريطاني الفرنسي، الذي كان يعكس نفسه في ارتباطات الجماعات الرأسمالية اليهودية الموزعة بين برطانيا وفرنسا أساساً. لذا كان انشاء هذا البنك يهدف إلى إتاحة الفرصة أمام النشاط المالي للجماعات اليهودية المرتبطة برأس المال البريطاني (عائلات هراري– عاداه– المرتبطتين بفرع روتشيلد البريطاني) كما لمصلحة (عائلة سوارس) وهي الجناح الوازن داخل هذا البنك لمصالح الجماعات المالية اليهودية المحلية. وتوجه نشاط البنك إلى التوسع في تمويل النشاط الكولونيالي البريطاني في الشركات العقارية وتمويلات شراء محصول القطن وتسويقه وإقامة قطاعات الهياكل الأساسية في النقل (سكك حديدية فرعية) لنقل الأقطان والسكر من الأراضي ومصانع السكر التي كانت تسيطر عليها العائلات اليهودية. ولاستكمال حلقات التسويق والنقل، أقيمت شبكة من الفنادق «شركة الفنادق الكبرى المصرية» في عام 1899 بموجب امتياز اليهودي «جورج تينكوفتش» حيث انضم اليه «إيلي موصيري» بنسبة 33% فيما بعد. وكانت إقامة هذه الشركة في إطار توفير التسهيلات اللازمة لعمليات البيع والاتفاقات مع ممولي الشراء الأجانب الذين كانوا يتوافدون على البلاد.
كان ذلك كله حلقة من حلقات عملية انقضاض رأس المال اليهودي لتوسيع سيطرته على الأراضي الزراعية والشركات العقارية وإحكام قبضته على البورصة وخطوط النقل. ثم الانتقال من مرحلة رأس المال الربوي إلى مرحلة رأس المال العقاري. والأهم هو الدور الكبير والخطير لارتباط هذه الجماعات الرأسمالية اليهودية بالحركة الصهيونية العالمية في مرحلة مبكرة. وهو ما سنتناوله لاحقاً.