المفاوضات غير المباشرة... والبحث عن مخرج!
عادت الحرارة لملف المفاوضات مع النشاط المحموم الذي تبذله سلطة رام الله المحتلة على عدة جبهات، محلية واقليمية ودولية.
وفي هذا السياق يمكن تحليل مضمون الزيارات التي قادت رئيس السلطة إلى عدة دول في أوروبا وأفريقيا وآسيا. لم يفارق تصريحات عباس ومرافقيه، التأكيد على أهمية وضرورة العودة لطاولة المفاوضات، مع الموافقة على تقديم أكثر من تنازل، يبرز في مقدمتها، دعوة حكومة العدو لوقف شامل لبناء «المستوطنات» لمدة ثلاثة أشهر! إنها بكائية جديدة، علها تحفظ ماتبقى من ماء الوجه. لقد فرضت حقائق الموقف الأمريكي الجديد، خاصة بعد التراجع الصارخ عن الموقف السابق، من قضية «تجميد»، وقف بناء المستعمرات، والنمو الطبيعي فيما هو موجود منها، ليأتي منسجماً ومتطابقاً مع موقف حكومة نتنياهو، الذي ظهر واضحاً بعد خطاب أوباما الأخير. وهذا مااستتبع بدوره فرض مجموعة جديدة من التنازلات على الطرف الفلسطيني، وحكومات بعض الدول العربية- التي طالبها الراعي الأمريكي «النزيه»، بالضغط على قيادة السلطة للاستجابة للرؤية الجديدة- التي لم تكن بحاجة لتلك الضغوط، لكنها كانت تبحث عن غطاء عربي رسمي، تستطيع تحت ظلاله تمرير عودتها لطاولة المفاوضات المشروطة بوقف الاستيطان بشكل شامل، «الضفة، القدس والأغوار». وهنا يشير التراجع لمبدأ «وقف الاستيطان»، وليس لـ«إزالة المستوطنات» كما جاء في العديد من القرارات الدولية، إلى دلالات ومواقف جديدة في موقف السلطة وحلفائها الإقليميين.
لم تنقذ سلطة رام الله التصريحات اللفظية المتتالية من مأزقها. فلا التركيز على طلب «الضمانات الأمريكية» للعودة للمفاوضات حقق لها ماتريد، ولا التعليق المؤقت للتوسع في محاولات استعمار الأرض، وهو ماجاء في مقابلات رئيس السلطة في «الغارديان» البريطانية، وأسبوعية «دير شبيغل» الألمانية، ومؤتمراته الصحفية في برلين وطوكيو والقاهرة، أعاد الجميع لطاولة الحوار. كما أن الطلب لـ«وقف مؤقت» في «الضفة والقدس والأغوار» مدته ثلاثة أشهر، وجد جوابه الجاهز عند حكومة العدو، إذ جاء كلام نتنياهو واضحاً «نرفض الشروط المسبقة»، الذي وجد تأييده الفوري لدى وزيرة الخارجية الأمريكية. لأن «خريطة الأولويات القومية» التي أقرتها حكومة العدو مؤخراً، وأعادت من خلالها الاعتمادات المالية لأكثر من تسعين مستعمرة- يسمونها عشوائية ومعزولة- في الضفة المحتلة، تحمل الإجابات المباشرة، لمن يحاول التهرب من الحقائق المرة التي فرضتها سياسات حكومة العدو.
إن الحديث المتواتر خلال الأيام الأخيرة عن دور أمريكي مباشر في إجراء «محادثات تقارب» بين الطرفين، من خلال مفاوضات غير مباشرة، يلعب فيها جورج ميتشل ومساعدوه دوراً بارزاً في تلك الحوارات غير المباشرة، التي ستكون بقيادة رجال من الصف الثاني، مما يعني أنها محاولة للهروب من الاشتراطات التي وضعتها قيادة السلطة للعودة للمفاوضات، كما يعني أن محادثات التقارب المقترحة، ستكون مرحلة مؤقتة، قصيرة للعودة للحوار، يتم خلالها تهيئة التربة للمحادثات المباشرة، من خلال تقليص الفجوات بين الطرفين. لكن التربة كانت تتهيأ على مدى سنتين، من خلال ماكشفته صحيفة «معاريف» الصهيونية في عدد يوم الخميس 4 شباط/ فبراير. فالحوارات السرية والمعمقة التي تجري تحت رعاية معهد «بيكر» في جامعة رايس في تكساس لفريق من المفاوضين من الكيان الصهيوني ومن السلطة الفلسطينية– تبلور في تقرير نشره المعهد في بداية الشهر الحالي، تضمن عدة أفكار وحلول محتملة للصراع بين الطرفين- يسميها التقرير «للنزاع». وقد شارك في اللقاءات طواقم متنوعة في اختصاصاتها. كان أبرزهم في الجانب الصهيوني المحامي «جلعاد شير»، مدير مكتب وزير الحرب ورئيس الوزراء الاسبق ايهود باراك. وفي مقابله على رأس وفد السلطة، كان «سميح العبد» أحد قادة فتح، الوزير السابق للبناء والاسكان في الحكومة الفلسطينية. وأشرف على ترتيب اللقاءات، وأدار الحوارات مدير معهد بيكر «ادوارد جرجيان»، الدبلوماسي الأمريكي الخبير في شؤون الصراع العربي/ الصهيوني. وقد تبادل المشاركون حلولاً عديدة لمشكلات المستعمرات، وتبادل الأراضي، وكيفية التعامل مع وضع مدينة القدس في أبعادها الدينية الثلاثة- خارج إطار وضعها في ظل احتلال أرضها وتهجير سكانها العرب الأصليين. إن قراءة تفصيلية لبعض الأفكار المتبادلة، تدفع أي مراقب ومحلل سياسي، لاستبيان خطورة تلك الحلول، بسبب ماتلحقه من كوارث، بحق الأرض والشعب.
ليس بعيداً عن الذي يتم تداوله في معهد بيكر، شهدت قاعات «مؤتمر هرتسيليا للأمن والمناعة القومية» حدثاً استثنائياً هذا العام. فعلى مدى السنوات التسع التي ينعقد فيها المؤتمر في كل سنة. برز في المؤتمر الذي التأم مابين 31/1 - 3/2/2010 مشاركة رئيس حكومة تصريف الأعمال في رام الله المحتلة «سلام فياض»، وإلقائه خطاباً استسلامياً بامتياز، قال عنه رئيس المؤتمر الجنرال احتياط «داني روتشيلد» (إنه إشراقة المؤتمر). لكنه وبالتأكيد فقد كان تعبيراً عن موقف متهافت، عكس بؤس السلطة، فكراً وسلوكاً ورموزاً. إن «الفياضية» ماهي إلا ّ التعبير الرسمي الفاقع لشرائح طبقية واجتماعية وجدت في «السلام الاقتصادي» الذي يتشدق به كل من «نتنياهو وبلير»، امتيازاتها ومصالحها، وتحصنت بقوات وخطط (جونز/ دايتون) البوليسية القمعية، كملاذ، سيوفر لسلامها المزعوم إرادة البقاء. لم تستطع كل العبارات المنتقاة بدقة، والتي تضمنها خطاب فياض، أن تقنع المواطن الفلسطيني، الذي تستباح كرامته وممتلكاته في كل يوم، بالسيادة التي يشرحها موظف «البنك الدولي» السابق عندما يتحدث عن مهام السلطة ومسؤولياتها (إذا أردنا وضع الأمور في سياقها الصحيح، فيجب وقف الاجتياحات، وأن يكون للسلطة الوطنية وجوداً أمنياً رسمياً في كافة التجمعات الفلسطينية وليس فقط في مناطق«A» فالدولة تعرَّف حيث يوجد أمنها، وليس قوى الاحتلال، وهذا يجب أن ينفذ وبسرعة لكي نتقدم نحو إنهاء الاحتلال). هكذا إذن، فالدول تتحدد وظيفتها فقط، بوجود بوليسها وأجهزة مخابراتها- حسب اتفاق أوسلو وخطة الطريق- الذي يقوم بوظيفة ودور قوات الاحتلال! إنها نماذج للمحميات وليست للدول. واستناداً على هذه الرؤية الفياضية التي رسمت البسمة على وجوه مجرمي الحرب الحاضرين للمؤتمر، كانت كلمات «شمعون بيرس» ذات وقع استثنائي على كل المراقبين. (إنه بن غوريون فلسطين)، إنها ليست شهادة حسن للسلوك فقط، بل هي الرؤية المستقبلية للرئيس القادم لسلطة رام الله.
إن ماتعكسه تلك التصريحات والحركات، يدل على بؤس وغش سياسة «المفاوضات حياة»، ويدل على أن الضعفاء لايصنعون استقلالاً، وكذلك المتسولون على أبواب المستعمر، أو المتحدثون من على منصات قاعات مؤتمراتٍ، كانت عناوين جلساتها الأولى «كيف نطرد العرب من وطنهم»، لايمكن لهم أن يبنوا سيادة للشعب على أرضه. إن إعادة صياغة المشروع الوطني التحريري/ التحرري هي التي تحمل الرد على كل ماتتعرض له القضية والوطن، بما تتطلبه من عودة للثوابت والمنطلقات التي حكمت انطلاقة الحركة الوطنية الفلسطينية/ العربية في بواكير مواجهتها للاستعمار الاستيطاني للأرض الفلسطينية، ولسياسة الهيمنة الامبريالية للوطن العربي.