شايلوك.. يأتينا من جديد (6)

بعد العرض المختصر الذي تناول مجرد نماذج من الرأسماليين اليهود في مصر وليس كلهم، ومجرد نماذج من أنشطتهم وليس كلها، يصاب غير المطلع بالحيرة. إذ أنجز اليهود الكثير الكثير. فلماذا نغضب؟ وأي غضاضة في هذا؟ ويستخدم المتصهينون ممن لبسوا رداءً شيوعياً زائفا في مرحلة الاختراق الأكبر للحركة الشيوعية المصرية في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، أو امتداداتهم من المتصهينين الجدد، أو من النخب الطبقية والسياسية والثقافية المعاصرة التي تعشق التبعية، وتؤثر مصالحها الذاتية، يستخدم كل هؤلاء هذا الأمر لتزييف الوعي وطمس الذاكرة الوطنية، والترويج للصهاينة وللهجمة الامبريالية– الصهيونية الجديدة التي نعيشها الآن. ولذلك ننوه لبعض الاستخلاصات والمغالطات

استنتاجات رئيسية:

لم تكن الرأسمالية اليهودية في غالبيتها الساحقة مصرية الجذور. إذ كانت وافدة هرباً من عسف الاضطهاد والاحتقار في أوربا، سواء في قسمها المتطور أو المتخلف. ولذلك آثروا الاحتفاظ بجنسياتهم الأجنبية. بل سعت الغالبية ممن اكتسبوا الجنسية المصرية للحصول على جنسيات أوربية وتخلوا عن الجنسية المصرية.

إنهم وفدوا ضمن، وفي أحضان الأوربيين وفي خضم الهجمة الأوربية بعد هزيمة مشروع محمد علي، وبحكم ارتباطهم مع المراكز الرأسمالية الأوربية– وفي قلبها التكتلات المالية اليهودية– وقد لعبوا ومنذ وقت مبكر دوراً فعالاً في تصفية المشروع، وفي إطار تقاطع مصالح الرأسمالية اليهودية مع مصالح البلدان الأوربية الاستعمارية انفتح لهم المجال واسعاً للانقضاض على مصر. واكتسبت ممارساتهم خاصية الانتقال المرن من مرحلة الى أخرى بادراك كامل لاتجاهات صعود وهبوط القوى الأوربية. لكن كل هذه الممارسات كانت تصب لحساب نهب الاقتصاد المصري.

الادعاء بأن الرأسمالية اليهودية أسهمت ايجابياً في تصنيع مصر يستدعي التدقيق في طبيعة الأنشطة الصناعية التي توجهت إليها. فقد أسهمت بشكل واسع في الصناعات المرتبطة بالقطن، سواء في انتاج الأسمدة اللازمة للتوسع في زراعته، أو حلجه وكبسه، أو النسيج والملابس... الخ. وكان ذلك في تناغم مع حاجات الاقتصاد الاستعماري من ناحية، وتكريس اقتصاد المحصول الواحد من ناحية أخرى. كما أنها وبجانب ذلك كانت في إطار صناعات استخراجية، ومراحل تجهيزها وتحويلها وتجميعها، إضافة إلى ورش الصيانة، وإبداء قدر من الاهتمام بصناعات غذائية، دون وجود أية شبهة لاتجاهها لتنمية صناعية عبر صناعات متكاملة يجري تطويرها وتحديثها لبناء تنمية حقيقية.

إن هذه الصناعات كانت تسير في ارتباط وتكامل مع الصناعات التي أقاموها في فلسطين والتي مثلت نواة الاقتصاد الاسرائيلي فيما بعد.

إنها كانت صناعات لخدمة مقاولات الأعمال الحربية خاصة في الحرب العالمية الثانية، والاحتياجات الكبيرة للجيوش الغربية.

إن الرأسمالية اليهودية في آخر مراحل وجودها في مصر، وحينما استشعرت توجهات عبد الناصر قامت ببيع ما بيدها من توكيلات تجارية لشركات أجنبية مرتبطة بالمصالح الرأسمالية اليهودية من أمثال روتشيلد  في بريطانيا وروكفلر في أمريكا، وأبرزها في مجال البترول تحديداً.

بدأت الهجمة عن طريق الإقراض الربوي أساساً، لامتصاص دماء المصريين بحثاً عن الربح فقط ، ولتخريب الاقتصاد وإغراق البلاد في الديون بما مهد للاحتلال البريطاني. إنها لم تقم بعملية بناء للاقتصاد. وإلا فإن علينا أن نصدق أن الدول الاستعمارية التي انقضت بوحشية على آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية كانت تحمل رسالة حضارية لضحاياها من الشعوب. 

كيف جاؤوا وكيف ذهبوا؟

وفد اليهود إلى مصر بأعداد غفيرة عقب ضرب مشروع محمد علي. وحينما بدأت الثورة العرابية هرب الكثيرون منهم. ثم عادوا بعد هزيمة الثورة، ومعهم أوسع موجة من اليهود الوافدين الى مصر المحتلة. وغادروا بعد ثورة يوليو 1952. وهاهم يعودون بكل الصيغ والأساليب الى مصر وغالبية البلدان العربية في عصر الهزيمة والردة.

ونستخلص من ذلك أنهم لا يستطيعون العيش إطلاقا في بلد يمتلك نهجاً تحررياً أو تقدمياً. فقط يعيشون– منذ القرن العشرين– في البلدان الرأسمالية الاستعمارية أو في المستعمرات أو البلدان التابعة. لا يمكنهم العيش– على الأقل غالبيتهم الساحقة– في بلد يبني نهضة وعدالة اجتماعية لشعبه. فلم يستطيعوا التعايش مع النظام الاشتراكي بعد ثورة 1917 خصوصاً بعد أن فشلت محاولات «كامينيف– زينوفييف– تروتسكي وغيرهم من اليهود» لوأد الثورة. وظل صراخهم يعلو من أجل الهجرة الى إسرائيل أو الغرب رغم ما توفر لهم من فرص هائلة مادياً وأدبياً، ورغم أنهم اخترقوا كل نسيج المجتمع وخلاياه الحية. وها نحن نشهد ما يفعله «المليارديرية» اليهود في روسيا، وما مارسوه ويمارسونه من نهب وتخريب. 

مغالطة مفضوحة:

يروج المتصهينون أو الغافلون إلى أن «الخروج اليهودي الثاني» من مصر، الذي تصاعد تدريجياً ما بين 1948 وحتى 1967 كان ترحيلاً لهم، رغم أن العديد من كبار الرأسماليين اليهود ظلوا في مصر (رغم عدوان 1956 الذي أيدوه) وحتى قرارات التأميم الواسعة عام 1961 وبعدها. قد يكون ترحيل البعض قد حدث جزئياً، ولكنه كان في عمومه هروباً من واقع جديد. كما كان من هاجروا قبيل وأثناء وعقب 1948 من القوى العمالية أو البرجوازية الصغيرة بالذات قد هاجروا لاستكمال بناء الكيان الصهيوني. وهؤلاء مع من هاجروا من البلدان العربية يشكلون القوام الرئيسي لليمين الاسرائيلي «حزب الليكود» الأشد عداءً للعرب. وتصيبنا الدهشة حينما يتكلم المتصهينون عن العمال والبرجوازيين الصغار اليهود رغم أن منهم تحديداً تشكّل «الفيلق اليهودي» الشهير. ولا يقل عن ذلك فجاجة الكلام عن أن أغنياء اليهود قد هاجروا إلى الغرب، لأن ذلك أمر طبيعي للغاية. فقد ذهبوا حيث مراكز رأس المال الامبريالي ليمارسوا دورهم ضد الشعوب كلها ضمن طواغيت المال الامبرياليين.

مالا يجب أن نغفل عنه هو أن فلسطين ليست هى سقف المشروع الصهيوني. إنها منصة الانطلاق للإقليم كله.

يتبع..