الجمهورية الخامسة أم الامبراطورية الثالثة؟
تمتلك باريس تاريخاً طويلاً في التدخل بشؤون المستعمرات الفرنسية السابقة في غرب إفريقيا، (ساحل العاج مثالاً)، حيث يستمر ارتفاع وتيرة التدخلات في القارة السوداء (ليبيا – الصومال) ويتكرر الأمر الذي أدى لازدياد الأحاديث حول إحياء للسياسات الاستعمارية الفرنسية هناك.
انقلاب على أوروبا
تتجه باريس شرقاً بهدف توسيع نفوذها التقليدي -ويذكر الجميع أنها كانت إحدى القوى الرئيسية المشاركة بالتدخل الدولي في ليبيا - دون أي اعتبار لمصالح حلفائها في الناتو (إيطاليا مثالاً)، هذا وقد عبّر رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق بيرلسكوني عن هذا الأمر بكل صراحة حين قال: إن هدف فرنسا من المشاركة في التدخل كان السيطرة على النفط والغاز الليبيين بعيداً عن مشاركة أي من حلفائها.
لقد رفضت فرنسا المسار الأوروبي الذي تم إعلانه منذ مدة ليست بالطويلة، هذا المبدأ الذي يقضي بتوظيف السياسات الأوروبية في تدعيم استقرار وتطوّر المنطقة. حيث بدأ مفهوم الشراكة الأورو- متوسطية (فرنسا، اسبانيا، إيطاليا) بالتلاشي تدريجياً من سلم أولويات السياسة الخارجية لفرنسا. حيث يبدو أن النخبة في فرنسا قد قررت أن اللحظة باتت مناسبة الآن للعودة إلى صفوف القوى العالمية الكبرى، خصوصاً وأن الإغراءات بعودة فرنسا من كونها جمهورية خامسة إلى امبراطوريةٍ ثالثة تزداد يوماً بعد يوم، فإذا نظرنا إلى مرحلة ما بعد الاستعمار التي تؤسسها على أرض الواقع، فبإمكاننا أن نجد أدلة على ذلك.
الحق في الاستعمار الجديد
في ستينيات القرن الماضي، قامت فرنسا المتروبولية (كما كانت تسمى في حينها) بعقد عدة اتفاقيات مع بعض الدول التي كانت تحتلها تمكنت من خلالها من إبقاء 14 دولة إفريقية ضمن منطقة « الفرنك الفرنسي « التي تم انشاؤها عام 1946. وبهذا استطاعت أن تربط اقتصادات هذه الدول بها واستمر هذا الربط إلى ما بعد مرحلة انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي.
وفقاً لهذه الاتفاقيات، فإن لفرنسا الحق في التدخل عسكرياً لأغراض الحماية واستعادة الاستقرار الداخلي وتوفير الأمن للأوروبيين الذين يعيشون في كل من السنغال وجمهورية إفريقيا الوسطى والتشاد وساحل العاج والجابون والكاميرون.
تعتبر فرنسا أن مساعدة حلف الناتو والاتحاد الأوروبي لها هي موضع ترحيب، إنما بحدود. إن السياسة الفرنسية المتبعة في إفريقيا تحظى بدعم قوى كل من اليمين و»اليسار» الفرنسيين، وخير دليلٍ على ذلك هو الاستعداد الذي أبداه الرئيس هولاند لاستعادة النظام في مالي.
قال الرئيس هولاند في مؤتمر صحفي عقد في 21 شباط ما يلي : « دعوني أذكركم بأن فرنسا لا تسعى من خلال هذه العملية التي تقوم بها في مالي إلى غاية سوى حماية دولة صديقة وهذا هو هدفنا الوحيد «. إلا أنه من المعروف أن الفرنسيين قد حصلوا على العديد من العقود الواعدة لإنتاج النفط والغاز في ليبيا، حتى أن بعض هذه العقود قد جاءت على حساب حلفائها الإيطاليين أنفسهم.
مالي نبع الذهب
لا شك أن مالي تبدو بلداً فقيراً جداً، غير أنها تعدّ، على المقلب الآخر، ثالث دولة إفريقية في إنتاج الذهب بعد كل من غانا وجنوب إفريقيا بمعدل إنتاج يصل إلى 52 طناً من الذهب سنوياً. ووفقاً لبعض الخبراء، فإن هذا المعدل مرشح للارتفاع ليصل إلى 100 طن سنوياً خلال 2 – 3 سنوات القادمة. وسأذكر هنا مثالاً لأوضح أهمية مالي في ما يخص إنتاج الذهب : (مجمل إنتاج روسيا من الذهب هو 200 طن سنوياً !!).
كما أن مالي غنية باليورانيوم، حيث بدأت شركة (أريفا) الفرنسية باستكشاف بعض مواقعه الموجودة قرب الحدود مع السنغال. هذا وقد قامت الشركة ذاتها في 15 نوفمبر 2012 بتوقيع اتفاق لدراسة الجدوى مع مجموعة (DRA) الجنوب إفريقية، تتركز على إنتاج كل من اليورانيوم والفضة والنحاس في مالي. ووفقاً للتقديرات، فقد وصل مخزون اليورانيوم فيها إلى حوالي 12 ألف طن، وهذه الكمية تفوق بأربعة أضعاف الكمية المنتجة في منجم (أريفا) الموجود في النيجر والذي تم إنشاؤه عام 2012.
نظراً للظروف الحالية، فإن شركات الطاقة الفرنسية تتجنب الحديث عن أنشطتها التي تقوم بها في المنطقة، حيث قال أحد مسؤولي هذه الشركات إنه: « كلما تحدثنا عن أنشطتنا بشكل أكثر، زدنا في المخاطرة بحياة موظفينا «.
حتى الآن، لم تحدث عمليات استكشاف واسعة أو شاملة في مالي، إلا أن المناطق الغنية بكل من الغاز والنفط، تتواجد بكثرة على الحدود مع البلدان المجاورة. لذا، فلدينا سبب وجيه للاعتقاد بأن هذه المناطق تصلح كموارد كبيرة للطاقة. إن ما يُدعى بـ « المبرر الأخلاقي « للتدخل العسكري في مالي هو مبررٌ ضعيف وليس له أي أساس من الصحة، حيث تشير التقارير الآتية من هناك إلى مشاركة القوات الفرنسية في عمليات السلب والنهب وحتى في عمليات الإبادة الإثنية.
شركاء في الإمبريالية
فيما يخص الموقف الأمريكي، فقد التقى جو بايدن نائب الرئيس الأميركي بالرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند في بداية شباط. وأكد بايدن على أن مصالح الولايات المتحدة وفرنسا هي مصالح مشتركة. ووفقاً لبايدن فإن البلدين يشتركان بنظرة واحدة للأجندة العالمية المتعلقة بالقضايا المعاصرة من أفغانستان إلى مالي مروراً بليبيا وإيران، ومن العولمة إلى ظاهرة التغيّر المناخي. حيث تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بدعم العملية العسكرية الفرنسية في مالي، وتعبّر عن دعمها هذا بوسائل وطرق عديدة كالمعلومات الاستخباراتية وعمليات النقل الجوي. وقد لقي هذا الدعم ترحيباً كبيراً من الرئيس الفرنسي هولاند. إلا أن الأمور كانت مغايرة تماماً في الفترة التي كان فيها جورج بوش الابن يجلس على سدة الرئاسة الأمريكية، ففي حينها رفضت كل من باريس وبرلين وموسكو أن تدعم العملية العسكرية الأمريكية في العراق. ونتيجةً لذلك، فقد جرى اعتبار فرنسا - في الولايات المتحدة - وتصويرها بمظهر يشبه مظهر الدولة المعادية تقريباً. حيث كان يُقال في واشنطن التالي : (عاقب فرنسا وتجاهل ألمانيا وسامح روسيا).
إن ما سبق وما يجري اليوم من تطورات ومواقف دولية، يعطي المرء انطباعاً قوياً بأن السياسة (الإمبريالية الجديدة) أو (الاستعمارية الجديدة) التي تنتهجها فرنسا حالياً ليست مجرد مغامرةٍ، أو محاولةً جريئة لتحدي النظام العالمي القائم، بل إن واشنطن - وبكل تأكيد - موافقة على الخطوات الفرنسية الحالية.
إن ما نشهده اليوم ونقف أمامه هو - غالباً - عملية إعادة تشكيل جدية للسياسة العالمية. فقد باتت واشنطن الآن مستعدة لإعادة تفويض بعض صلاحياتها لتحقيق الهيمنة العالمية لها ولأقرب حلفائها. فأميركا لم تعد قادرة بعد اليوم على أن تكون في كل مكان وكل الزمان في الوقت ذاته.
• عن موقع Globalresearch.ca