الصين الشعبية في مواجهة استحقاقات مصيرية

عقد الحزب الشيوعي الصيني مؤتمره الثامن عشر ما بين 8 إلى 14 من الشهر الحالي تشرين الثاني في العاصمة الصينية بكين، وحضر المؤتمر حوالي 2200 مندوب عن الحزب في عموم الصين ناقشوا أهم  العناوين في حياة البلاد السياسية والاقتصادية، مثل الفساد وازدياد الهوة بين الأغنياء والفقراء والنمو الاقتصادي واعتماد مبدأ «التنمية العلمية» في دستور الحزب إلى جانب مسألة الحريات السياسية وإنشاء ثمانية أحزاب جديدة، وانتخب «تشي جينبينغ» أميناً عاماً للحزب خلف لـ«هو جينتاو» وبذلك يتوقع أن يكون رئيساً للبلاد في العام المقبل.

تناول «هو جينتاو» في خطابه معظم العناوين السياسية والاقتصادية المذكورة آنفاً وأهمها الفساد في الدولة والحزب، وربط مابين مسألة ازدياد الهوة بين الأغنياء والفقراء ومسألة النمو الاقتصادي. لم يشهد المؤتمر الأخير، حتى بطروحاته هذه، أي انعطاف جدّي في معالجة الملفات المختلفة في الصين، فالمستجدات التي طرأت على الواقع الداخلي للصين وعلى المستوى الدولي تحتاج إلى ما هو أكثر من مقررات المؤتمر الثامن عشر، مثل الأزمة الاقتصادية العالمية، وارتباط الاقتصاد الصيني بكبريات الاقتصاديات الرأسمالية التي تشهد تراجعا ينعكس بدوره على الصين، فضلاً عن ضرورة إعادة النظر في السياسات الاقتصادية- الاجتماعية والعدالة الاجتماعية في بلد يحكمه حزب شيوعي يؤمن بالاشتراكية العلمية.

تشكل قضية العدالة الاجتماعية إضافة إلى ضرورة توسيع الحريات السياسية مهام ملحّة وأساسية تنتصب أمام دولة الصين وحزبها الشيوعي، ذلك أن الصين، وبحكم تعمق التناقضات الداخلية فيها، أمست مرشّحة كأي بلد آخر في العالم اليوم، كبر أو صغر، لانفجار موجة احتجاجات شعبية واسعة، فما بالك إذا كان بحجم الصين كعدد سكان وكتناقضات سياسية واجتماعية. فالصين باتت اليوم تلعب دوراً كبيراً في السياسية الخارجية، وهو دور مستقلّ إلى حد بعيد عن السياسات الغربية، وأقرب إلى مجموعة البريكس، ناهيك عن وزنها الاقتصادي ونموها العالي الذي يبلغ قرابة 7.5 % سنوياً، ومن الجدير بالذكر بأن نسب النمو هذه لا تتحقق بكل جغرافية الصين إنما في المناطق الساحلية منها، وهي مقاطعات محددة تمنع الهجرة بينها وبين الداخل في الأراضي الصينية، الأمر الذي يشير إلى تفاوت التنمية والنمو ما بين أقاليم الصين المختلفة، وهذا بدوره تناقض إضافي يضاف إلى سلسلة التناقضات السابقة. والمسألة الأخيرة التي لا تقل أهمية عن التناقضات السابقة، هي طبيعة جهاز الدولة والعلاقة بينها وبين الحزب، إذ كما هو معلوم فقد ذهبت الصين باتجاه اقتصاد السوق وتحرير الأسواق، وذلك في ظل وجود جهاز دولة ضخم بُني على أساس التجربة الاشتراكية، ما أدى إلى انتفاء وظيفة جهاز الدولة في حماية التجربة والاقتصاد الاشتراكيين. وفي ظل سيادة علاقات الإنتاج الرأسمالية لعب ويلعب هذا الجهاز دوراً بيروقراطياً متخلفاً، ينحرف عن الدور الذي كان مطلوباً منه منذ عقود عندما بُدئ في تأسيسه، لذا فهو مرشح أن يلعب دوراً سلبياً في حال تفجر التناقضات في الصين، من هنا أصبح من الضروري معالجة دور ووظيفة جهاز الدولة في الصين، والعلاقة بين الحزب والدولة في المرحلة المقبلة. والحقيقة أن المؤتمر عالج كل هذه القضايا، ولكن ليس بالعمق المطلوب، بحيث لم تظهر تحولات جذرية وشاملة واستباقية لانفجار أي تناقض محتمل في الصين.

وعلى الرغم من كل الملاحظات الآنفة بصدد التجربة الصينية، تبقى مسألة إعادة السياسة والاقتصاد الصينيين إلى السمت الصحيح، بما يجنبها المطبات والأزمات السياسية والاقتصادية التي تعصف في العالم بأسره، أسهل بالنظر إلى تجارب الغرب، إذ أن الأرث التاريخي والحضاري المجيد للصين سيلعب دوراً كبيراً في تخفيف آلام المخاض في عودة الصين إلى ألقها في العالم الجديد.