قمح دير الزور... بين معادلة الأمن الغذائي وسياسات الإضرار بالإنتاج!
دير الزور هي المحافظة الزراعية الوحيدة التي تعتمد في الزراعة على الري البحت من نهر الفرات، بسبب وقوعها ضمن خطوط الأمطار القليلة والشحيحة، وهذا ما يرفع نسبة التكاليف عالياً فيها.
تابعت قاسيون موسم القمح هذا العام في دير الزور ضمن الريف الشرقي، وخاصة موحسن وبقرص فوقاني، من حيث الواقع والتكاليف ومعاناة الفلاحين ومطالبهم.
الوقائع تكذب الغطاس!
رغم حديث وزارة الزراعة والحكومة عن أهمية زراعة القمح وتوسع زراعته عبر خطط وهمية وخلّبية على جميع المستويات، إلاّ أن الوقائع تُكذِّب ذلك، وكذلك أقوالُ الفلاحين والمزارعين.
المزارع ف/ و، من موحسن قال: في العام الماضي 2023 زرعنا (نصف) ما زرعناه العام الذي سبقه 2022، وهذا العام 2024 زرعنا (ثلث) ما زرعناه في العام الماضي 2023، والسبب الأساسي ارتفاع تكاليف الإنتاج وسياسات التسعير المجحفة!
وللمفارقة فإنّ الحكومة تشتري منّا كغ القمح بما يقارب 4000 ليرة، وتبيعنا كغ البذار بما يقارب 6000 ليرة!
والمفارقة الثانية، أن سماد اليوريا يستخدم لزيادة الاخضرار والنمو، مما اضطر بعض الفلاحين لقطف رؤوس المحصول، بينما السماد الأحمر الذي لم يعد يستخدمه الفلاحون رغم أهميته في زيادة الحب لعدم القدرة على شرائه، فهو غير متوفر حكومياً، وسعره لدى التجار انخفض نسبياً لعدم الإقبال عليه!
الفلاح م/ ب، قال: أنا صرت فلاح (ازغيّر) أي صغير، ولم أزرع سوى بضع دونمات لتأمين غذاء أسرتي من القمح، بسبب عدم قدرتي على تغطية تكاليف مساحة أكبر، والمشكلة أن الجهات المسؤولة تلاحقنا على إنتاج هذه المساحة الصغيرة، وتستولي عليه!
المزارع أ/ م، قال: لم أزرع هذا العام قمحاً لأني خسرت في موسم العام الماضي، وحاولت أن أعطي الأرض لأحد ليزرعها، حتى دون إيجار لأحافظ على الأرض من التملح، لكن لم أجد من يزرعها!
الفلاح س/ ت قال: نحن نضطر لزراعة القمح والقطن رغم أننا نخسر ولا خيارات أخرى أمامنا، فلا يمكننا حتى زراعة محاصيل بديلة كما في المحافظات الأخرى، لأننا مرتبطون بمشاريع الري التي تعمل وفق خطط زراعة هذه المحاصيل فقط!
التكلفة المرتفعة لا يغطيها العائد!
بحسب بعض الفلاحين فإن تكلفة زراعة الدونم لا تغطيها العائدات بعد الحصاد وتسليم المحصول، ما يعني وقوعهم بخسارة محققة كما كل موسم، والجدول التالي يبين تكلفة زراعة دونم من القمح بآلاف الليرات:
وبالتالي فإن تكلفة الدونم تقارب مليوني ليرة سورية، وفي حال اعتبرنا وسطي إنتاج الدونم الواحد 400 كغ، دون أن يتعرض الموسم لكوارث بيئية أو أمراض أو تغيرات في أسعار الكلف، وفي تقييمٍ للإنتاج بأعلى المستويات دون إجرامٍ عالٍ، وفي حال كانت لجان التقييم نزيهة دون محاباة أو فساد، تكون قيمته وفق تسعيرة الحكومة مليوناً و600 ألف ليرة، أي الخسارة واضحة، أما إذا أضفنا قيمة التبن فربما يمكن تغطية التكلفة، لكن بالمقابل يكون جهد الفلاح خلال الموسم بلا ثمن!
فكيف للفلاح أن يعيش ويعيل أسرته، وخاصة في ظل الغلاء الفاحش؟!
بعض مطالب الفلاحين!
طالب الفلاحون جميعهم، ممن التقت بهم قاسيون، بإعادة الدعم وتوفير وتقديم مستلزمات الإنتاج، من بذار وسماد ومحروقات وأدوية مكافحة وأكياس، بالكميات المطلوبة وبأسعار رخيصة، وإعادة تأهيل مشاريع الاستصلاح الزراعي، ووضع خطط حقيقية مناسبة وقابلة للتنفيذ، لأنه حتى الجمعيات، وليس الفلاحون فقط، يقومون بوضع نسب غير حقيقية للأراضي المزروعة بالقمح، فإما أن يكون التنفيذ أقل وزراعة البقية بمحاصيل علفية لحيواناتهم، أو حتى يتركوا كمية من القمح لاستهلاكهم الشخصي، وكذلك رفع مبلغ تسعير القمح على الأقل أربعة أضعاف، ومحاربة الفساد، ومطالب أخرى عديدة!
رئيس جمعية بقرص فوقاني خميس (أبو محمد) طالب بالآتي:
توفير الطاقة الكهربائية بشكل مستمر، لأن انقطاع الكهرباء يؤدي إلى توقف المضخات، وبالتالي توقف الري الذي يستمر إلى عدة أيام في الرية الواحدة.
تعزيل قنوات التصريف التابعة لاستصلاح الأراضي لأنها تخزن المياه، وبالتالي ارتفاع منسوبها يؤدي إلى أن (تبجّ) الأرض وتتملح، وبالتالي موات المحصول.
صبّ الساقية الرئيسية بالإسمنت بطول 3 كم للحفاظ على المياه من التسرب إلى الأراضي وبالتالي تملحها، ولتسهيل عملية الري وسرعتها لاختصار الجهد والزمن!
وكما قال: طالبنا بذلك مرات ولم يستجب لنا أحد، وناشدنا كذلك المنظمات الدولية أن تقوم بذلك، كما فعلت إحدى المنظمات في بقرص تحتاني!
الأمن الغذائي والحلول البسيطة!
تعتبر محافظة دير الزور من المحافظات الزراعية الأساسية على مستوى الإنتاج الزراعي، بشقيه النباتي والحيواني، فهي ترفد الاقتصاد الوطني بالمحاصيل الاستراتيجية، كالقمح والشعير والذرة والشوندر والقطن، وارتباط هذه المحاصيل ببعض الصناعات المحلية الهامة، إضافة إلى العديد من الخضروات والبقوليات للاستهلاك المحلي، وعلى مستوى الإنتاج الحيواني بأغنام العواس والجمال والأبقار، بلحومها وبمشتقات حليبها وألبانها، وبالتالي تساهم بحصة لا بأس بها على مستوى الحفاظ على الأمن الغذائي للسوريين!
لكن السياسات الليبرالية التي طُبقت منذ عقدين، والمستمرة إلى الآن، إضافة إلى ظروف الأزمة الناتجة عنها، لم تؤدِّ إلى تقلص الإنتاج الزراعي في هذه المحافظة فقط، بل إلى تراجعه وتدهوره بشكل مريع!
ولا شكّ أن واقع الزراعة في الريف الشرقي من دير الزور والمحافظة ككل، وواقع محصول القمح وغيره من المحاصيل، ومعاناة الفلاحين فيها لا تختلف كثيراً عن بقية المحافظات، بسبب جملة السياسات الليبرالية والممارسات القائمة على النهب والفساد، وإن كانت هناك فروقات نسبية فهي بسبب ظروف الأزمة والظروف البيئية، لكن المطالب والحلول واحدة تقريباً، وأهمها:
إعادة الاعتبار لسياسات الدعم الفعلي، وليس الخلبي والإعلامي، لكل مستلزمات الإنتاج!
اعتماد سياسات تسعير مجزية للمحصول تغطي التكاليف الفعلية مع متغيراتها، مع منح هامش كافٍ لتغطية تكاليف المعيشة للفلاحين إنهاء أوجه المحاباة والمحسوبية والفساد!
فهل تكفي معادلة الأمن الغذائي لتنفيذ المطالب البسيطة أعلاه، أم لسياسات الحكومة رأي آخر في ذلك، ولو كانت نتيجتها تكريس الإضرار بهذه المعادلة، وبالتالي التضحية بالأمن الغذائي وبالإنتاج وبمصالح الفلاحين والمستهلكين، وبالاقتصاد الوطني ككل؟!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1166