نزيفٌ حتى الموت!
بحثاً منهم عن فرص حقيقية لحياة أفضل، تضمن لهم أقل ما يمكن ضمانه فيما يخص المعيشة الكريمة، تستمر الكوادر والكفاءات، بمختلف اختصاصاتها، بالهروب والهجرة إلى أية بقعة على الكرة الأرضية، بعيداً عن هول ورعب الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، التي يعيش في ظلها 95% من السوريين!
إلا أن هذه الظاهرة عندما تمتد إلى القطاعات الأكثر حساسية وخطورة على حياة المواطنين، كما هو الحال في كوادر وكفاءات القطاع الصحي بشكل عام، ومجال التخدير بشكل خاص، يجعل استنزاف الكوادر في هذا القطاع تحديداً أكثر خطورة مقارنة بغيره!
فليس اقتصار خسائره على الناحية الاقتصادية والسياسية فحسب، وإنما امتداد هذه الخسائر لتطال حياة السوريين، وقصر أجلهم، ورفع مستويات تعرضهم للموت أضعافاً مضاعفة!
وهذا ما أكدته وأشارت إليه أكثر من مرة رئيس رابطة التخدير وتدبير الألم في نقابة الأطباء د. زبيدة شموط عن الخطر حول النقص الحاصل بعدد أطباء التخدير في المشافي، مبينة أن هناك استنزافاً في أعدادهم بشكل مخيف!
فخلال حديث سابق لشموط في شهر كانون الأول 2021 أوضحت أنه «يوجد في سورية 500 طبيب تخدير يتوزعون على المشافي العامة والخاصة، في حين أن حاجة البلاد من هذه الكوادر تقدر بما لا يقل عن 1500 طبيب لتغطية جزء من النقص»، مؤكدة: أنه لا توجد حلول جذرية لتحسين وضع أطباء التخدير في البلد.
ونوهت في حينه أيضاً إلى أن «النسبة الكبرى من أطباء التخدير هم بين 55 إلى 65 عاماً، وهم في مرحلة التقاعد، في حين أنه يوجد فقط ثلاثة أطباء هم تحت الـ 30 عاماً، إضافة إلى أنه لا يوجد مقيمون منهم سوى أربعة أطباء، وكل من سيتخرج حالياً من المتوقع أن يغادر البلاد، وبالتالي فنحن في تدهور مستمر».
الآن، وبعد مرور سنتين على التصريح أعلاه تقريباً، أكدت رئيس رابطة أطباء التخدير د. زبيدة شموط مجدداً خلال حديث لإذاعة ميلودي إف إم: أن «تناقص أطباء التخدير لا يزال مستمراً والأزمة تتجه نحو الأسوأ، مقدرة عدد الأطباء بحوالي 250 طبيباً فقط، بينما حاجة البلاد لهذا الاختصاص تصل الآلاف».
فخلال أقل من عامين طال النزف في أطباء التخدير نسبة 50% ممن تبقى منهم سابقاً، وكل ذلك على مرأى ومسمع ودراية الحكومة!
وبكل وضوح، أشارت شموط إلى أن «الوضع المادي المتدني هو السبب، مقابل المسؤولية العالية التي يحملها الطبيب. كما وصفت وضع أطباء التخدير بالحزين، محذرة من أن نصل إلى مرحلة لا نجد فيها أحداً، قائلة: لم نترك باباً إلا وقرعناه، لافتة إلى أن المشكلة بدأت قبل سنوات والأرقام في تدنٍ، ومنذ 2020 حصلت وفيات كثيرة بسبب الفيروس فضلا عن الاحتشاءات القلبية التي ازدادت بين الأطباء بسبب العمل الكبير الملقى على عاتق أطباء التخدير»!
وقد لفتت في حديثها: إلى أن «دولاً مثل اليمن باتت تستقطب الأطباء السوريين، حيث تعطي رواتب تصل إلى 4000 دولار، وكذلك الصومال التي تعطي رواتب جيدة، فضلاً عن ألمانيا والإمارات وقطر والكويت والعراق».
وخلال حديث لشموط إلى صحيفة الوطن بتاريخ 26/3/2023 قالت أيضاً: « إن استمرار تناقص أعداد أطباء التخدير سوف يولد العديد من المشاكل، حتى أن هناك بعض المشافي، ومنها حكومية لا يوجد فيها أطباء تخدير، مشيرة إلى أن هذا الأمر ليس صحياً، ومعتبرة أن التمديد للأطباء الذين دخلوا في سن التقاعد أمر ليس صحيحاً، ولا يمكن أن يحل مشكلة تناقص أعداد أطباء التخدير حتى أن العديد منهم يرفض التمديد».
وأكدت على: «ضرورة حل مشاكل أطباء التخدير، وخصوصاً فيما يتعلق بالوضع المالي، وذلك بتحسين دخلهم، موضحة: أنه يجب أن يكون هناك وارد مالي حتى يتم تشجيع طلاب الطب على الدخول إلى هذا الاختصاص، وخصوصاً أن أعداد أطباء التخدير قليلة والعدد في تناقص».
الغريب في الأمر، أن هذه الكوادر تقصد دولاً تعتبر من دول العالم الثالث، مثل: اليمن والصومال، والأكثر غرابة، أن هذه الدول تعاني ما تعانيه من أزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية تضاهي ما نعانيه في سورية، بل تكاد تتجاوزه في بعض القضايا، ما يدل على أن هذه الدول بالرغم من بؤسها الاقتصادي والاجتماعي لا زالت حكوماتها تأخذ بعين الاعتبار سلم الأولويات بشكل عام نسبياً، وبالتالي، محاولة الحفاظ على دعم القطاع الصحي، وتأمين حياة مقبولة قدر المستطاع لكوادره، على الرغم من ليبرالية سياساتها وانتشار الفساد في مؤسساتها!
أما بالنسبة لحكومتنا، فإنها ترى أن الأزمة والعقوبات والحصار الاقتصادي الذي تتعرض له البلاد هو المسبب الأساسي والوحيد لهذا النزيف، متغافلة في ذلك عن السبب الجوهري المتمثل بالسياسات الأجرية، وبانتشار الفساد في مؤسسات الدولة، بسبب جملة السياسات المتبعة من قبلها، بحيث يتضح أن الحصار الاقتصادي هو عامل مساعد لها ليس إلّا!
المأساة في نزف الكادر الطبي، بدأ حصاد نتائجه الكارثية على السوريين وصحتهم وحياتهم، ولعل أكثر ما يمكن إدراجه ضمن هذا السياق، هو كثرة الأخطاء الطبية، بما في ذلك ما يتعلق بإجراءات التخدير في بعض المشافي، والذي سبق أن تم تسليط الضوء على بعض ضحاياه خلال السنوات الماضية، والمستمرة وصولاً إلى الأسبوع الماضي، في حادثتين متشابهتين في إحدى المشافي الخاصة بدمشق!
فالأخطاء الطبية وزيادتها هي النتيجة الطبيعية للنزف الجاري على مستوى الكادر الطبي، والذي لا يعفي الحكومة من مسؤولياتها تجاهه من كل بد!
فزيادة الأخطاء الطبية وتزايد أعداد ضحاياها تتحمل مسؤوليته الحكومة بشكل غير مباشر، بالإضافة لمسؤوليات المتسببين المباشرين به، أيّاً كان هؤلاء!
والحديث الرسمي عن إصدار قانون خاص بشأن الأخطاء الطبية، على الرغم من أهميته وضرورته، إلا أنه غير كافٍ لوحده لمعالجة الأسباب بعمقها وجذورها، والوقوف على النتائج والمحاسبة عليها!
فناقوس الخطر الذي قرعته وتقرعه رئيس رابطة أطباء التخدير، وما يتم حصاده من نتائج سلبية لحدود الكارثة على مستوى زيادة أعداد ضحايا الأخطاء الطبية، لم يصل إلى أسماع الحكومة حتى الآن، بدليل استمرارها بكل لا مسؤولية بسياساتها المجحفة تجاه السوريين وخدماتهم ومعاشهم وحياتهم، والنابذة والطاردة لهم بشكل مستمر ومتواصل!
فالنزف يبدو أنه سيستمر حتى الموت، طالما بقيت السياسات على حالها دون تغييرها بشكل جذري!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1116