مستقبل أبناء سورية... رهين مافيات الفساد
عبير حداد عبير حداد

مستقبل أبناء سورية... رهين مافيات الفساد

تعد ظاهرة انخفاض معدل الولادات في سورية، أحد أهم آثار الأزمة وضوحاً وأكثرها خطورة على حاضر ومستقبل المجتمع السوري والبلاد!

فما الأسباب المباشرة التي أدت إلى هذا الانخفاض، وما مدى ارتباط سنوات ما بعد انفجار الأزمة السورية بهذه الأسباب، وماذا يحمل ذلك على مستقبل سورية القريب من مخاطر في حال استمرار المسببات ذاتها دون حل جذري يوقف المأساة؟!
فقد صرح مدير مشفى التوليد في دمشق يوم 19 كانون الأول «إن عدد الولادة انخفضت إلى 400 ألف طفل خلال النصف الأول من العام الحالي، مشيراً إلى أن نسبة الولادات في سورية انخفضت إلى 70%».

لمحة لواقع الولادات في سورية

بداية لا بد من تعريف معدل الخصوبة «الولادات» العامّ بأنه النسبة بين عدد المواليد الأحياء في سنة ما إلى إجمالي عدد الإناث في سن الحمل أي (من 15 إلى 49 عاماً).
ويتأثر معدل الخصوبة «الولادات» بالعديد من الأسباب منها الاقتصادي- الاجتماعي السائد في بلد ما، كما تعد الحروب أحد أهم أسباب تخلخل معدل الخصوبة نتيجة الخسائر البشرية الهائلة والمشكلات اللاحقة التي تسجل خلال تلك الفترة...
يميل معدل الولادات في البلاد بين سنوات 1970 و2020 نحو الانخفاض حيث وصل في عام 1970 إلى 7,9، ثم انخفض خلال عام 1990 إلى 5,9، ليعاود التراجع في عام2010 إلى 5,2، مستمراً بالانخفاض خلال عام 2014 إلى حدود 3,4، أما الفترة بين عامي 2015 و2020 فقد بلغ معدل الخصوبة لكل امرأة 2,8.
وحسب الإحصائيات فإن عدد الأطفال المولودين في سورية لكل 100 امرأة في عمر الخصوبة بلغ في عام 2010 نحو 17 مولوداً، بينما في عام 2017 بلغ نحو 6,6 مواليد، وبلغ عام 2019 نحو 7,2 مواليد...

أسباب ما قبل انفجار الأزمة

يعد العامل اقتصادي الحامل الأساسي لتراجع أعداد الولادات ما قبل انفجار الأزمة، وذلك نتيجة إلى التفاوت بين الأجور وما يمكن أن تغطيه من تكاليف معيشة مرتفعة، وعدم قدرة غالبية الشباب على الإقدام على خطوة الزواج وتأمين حياة مستقرة، بالإضافة إلى لجوء الأسر إلى تحديد عدد مواليدهم حتى لا يغرقوا أكثر بمتاهة تفاقم تكاليف المعيشة...
فمن المعروف أن عدم تناسب الأجور وتكاليف المعيشة هي مشكلة قديمة، وقد اقترنت بها مسألة الدعم الحكومي كمحاولة لتغطية ذلك التفاوت، ولعل المشكلة بدأت تشتد بشكل أكبر منذ عام 2005، أي منذ تبني سياسة رفع الدعم وما ألحقته من أضرار على مستوى قطاعي الزراعة والصناعة عصب الإنتاج الحقيقي، مما سهل تدمير اقتصادنا المنتج لصالح فتح الأسواق للبضائع الأجنبية المستوردة من قبل حيتان الفساد والنهب بتغطية قانونية مشوهة، وكان ارتفاع نسب البطالة الشكل الأكثر وضوحاً كنتائج لتلك السياسات الحكومية، التي بدأت برفع الدعم دون تصحيح طرف المعادلة الأخر أي الأجور، ليختل التوازن وينعكس ذلك على واقع المعيشة الذي بات صعباً على غالبية المواطنين المفقرين.

أسباب ما بعد انفجار الأزمة

بقيت هذه المظاهر الاقتصادية مستمرة بعد انفجار الأزمة، على الرغم أنها كانت السبب الأساسي للانفجار، وتسارعت تلك المظاهر بحجج الأزمة والعقوبات والحصار واستمرت الحكومة برفع الدعم وما رافق ذلك من عمليات وأد للزراعة والصناعة عصب الإنتاج، بل وصلنا في يومنا هذا إلى شل حركة البلاد والعباد وتعمق الفقر حتى وصلنا إلى مستويات كارثية من الفقر والجوع لم يسبق لها مثيل، وما حملته سنوات الحرب من أسباب إضافية كانت أكثر عنفاً أدت إلى هجرة الشباب خارج البلاد بحثاً عن مكان أكثر أمناً واستقراراً، بالإضافة إلى ارتفاع أعداد الوفيات خصوصاً لنسبة الذكور في عمر الشباب كنتيجة مباشرة لإقحامهم بالأعمال العسكرية، وما خلفه ذلك من نسب كبيرة بأعداد الأرامل، وارتفاع نسب الإناث على الذكور، ناهيك أن من بقي على قيد الحياة وداخل البلاد غالبيتهم من المفقرين لا يمكن أن يتحملوا تكاليف المعيشة التي باتت تتسارع عجلة ارتفاعها بين اليوم والتالي، كل تلك الأسباب أدت إلى تراجع عقود الزواج بل وتفاقم المشكلات الاجتماعية التي تعكس تزايد عدد حالات الطلاق أحد أهم نتائجها.
فقد بلغ عدد حالات الطلاق في سورية خلال عام 2015 ما يقارب 9,670 حالة ليزداد خلال عام 2020 إلى 26,956 حالة طلاق حسب بيانات المكتب المركزي للإحصاء.
إن كل تلك الأسباب مجتمعة أدت إلى تراجع أعداد الولادات في سورية إلى هذه النسب الكارثية.

تفاقم المشكلة

تقول القاعدة العامة أنه عادة ما يشهد مجتمع ما بعد انتهاء الحروب نمو سكاني يعوض الخسائر البشرية التي فقدتها، وذلك نتيجة لتحسن الظروف الاقتصادية في حال سمحت الفرصة...
ولكن ما شهدناه في بلادنا كان عكس ذلك تماماً، فمع انتهاء الأعمال العسكرية والاقتتال في غالبية الأراضي السورية، بدأ السوريون يشهدون تحسناً نسبياً وطفيفاً من الناحية الاقتصادية انعكس إيجاباً نوعاً ما على الواقع الاجتماعي، لكن سرعان ما تبخر هذا التحسن خلال مدة قصيرة، ليتبين أن الحرب الاقتصادية التي شنتها الحكومة على لقمة عيش المواطن أشد وأعتى بنتائجها السلبية من الحرب التي كانت دائرة على الأراضي السورية.
فقد اشتدت وتيرة رفع الدعم حتى إنهائه بسرعات خيالية، كان آخر محاولات إنهائه اقتراح البديل النقدي للدعم الذي ما زال قيد الدراسة، وسينتهي معه آخر ما بقي من فتات دعم حكومي للمواطن بعد أن تتبخر قيمته النقدية مع ارتفاع الأسعار الوحشي، وليس انتهاءً بالحجج التي تتذرع بها الحكومة كالعقوبات والحصار وغيره الكثير لخنق الدعم عبر اختلاق أزمات تمهد نحو المزيد من رفع الدعم، أدت بنهاية المطاف إلى وأد الزراعة والصناعة مقابل عمليات الاستيراد وما تحمله معها من أرباح خيالية لمحتكريها، بحجج العقوبات والأجور النقل والشحن وأزمة الطاقة والغذاء الأخيرة، ولتمهد الطريق أمام مافيات الفساد والنهب المستشري، لتوسّع جعبة أرباحها من جيوب المواطنين، عبر تنشيط السوق السوداء التي يتوفر فيها كل ما يمكن ألّا تجده متوفراً عبر قطاعات ومؤسسات الدولة، وليتحكم حيتان الفساد والنهب بأحوال العباد والبلاد.
وهكذا نجد أن أصحاب القرار منذ ما قبل الأزمة قد وضعوا الأساس المادي لعمليات الإفقار والتطفيش التي سرعت من حدتها عمليات الاقتتال، وبقيت مستمرة مع انتهاء الأعمال العسكرية كنتيجة مباشرة للحرب الاقتصادية التي أعلنتها الحكومة على مواطنيها، فكان انخفاض معدل الولادات هذا أحد أكثر تجلياتها، وما لذلك من أثر سلبي على مستقبل البلاد بحال استمرار الوضع على حاله، فمن المؤكد أننا سنفقد المزيد من القوى الشابة وسيتحول المجتمع السوري من مجتمع فتي معيل إلى مجتمع تغلب عليه نسبة المعالين الذين لن يجدوا من يعيلهم...
وخلاصة القول، إن إعادة إنتاج الحياة نفسها في المجتمع السوري باتت من المستحيلات، ليس بسبب الأزمة وتداعياتها، وليس بسبب العقوبات والحصار، بل بسبب جملة السياسات الظالمة المتبعة، والإصرار على الاستمرار بها أياً كانت النتائج.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1102