القانون والحقوق الحقيقية

يعتبر الحق المفهوم الأساس الذي تقوم عليه القوانين، باعتبار أن صيانة الحقوق إحدى أبرز أهداف القانون، كما يعتبر من المفاهيم الإشكالية التي اهتم بها الفلاسفة منذ نشأة الفلسفة لارتباط إشكاليته بهموم الإنسان وتطلعاته، وأخيراً فإن مصطلح الحق من أكثر المصطلحات ترداداً على ألسنة الناس عموماً، ومنهم المواطنون في سورية، لإحساسهم الدائم بأنهم مجردون من جملة حقوقٍ يجب أن يتمتعوا بها.

فبينما يرى شُرّاح القانون أن الحق هو تلك السلطة الممنوحة لصاحب الحق بموجب النصوص القانونية الثابتة، وأن الحق هو ثمرة القانون إذ لا وجود لحق لا تقرره نصوص القانون، يرى المواطن العادي أن القوانين قاصرة عن تلبية حاجاته وصيانة حقوقه، سواء على صعيد النص القانوني نفسه، أو على صعيد آليات تطبيقه. وبالتالي فإنه عندما يرى أن هناك حقاً له لا يسعفه القانون ومؤسساته في اقتضائه، فإنه يلجأ إلى وسائل أخرى خارج القنوات الشرعية لاقتناص ما يعتقد أنه حقه.
والحقيقة أن المنهج القانوني في الأساس، مرتبط بشكل أو بآخر بوجهة النظر الفلسفية حول الحق، ولذلك تكون العودة إلى المفهوم الفلسفي للحق، ضرورية للوصول إلى حل نظري لهذه الإشكالية. فيرى فلاسفة الحق الطبيعي أن الحقوق التي يجب أن تمنح للإنسان، هي تلك التي يتمتع بها بحكم طبيعته كإنسان. فكانت عودة «هوبز» و«جان جاك روسو» وغيرهما إلى الطبيعة الإنسانية بهدف العمل على وضع تصور للحقوق والتشريعات بحيث تكون عادلة ومتناسبة مع أصل الطبيعة الإنسانية وغير متعارضة معها، ويكون دور القانون الوضعي هنا هو تنظيم العلاقات الإنسانية داخل الجماعة بما يحقق التوازن بين الحقوق الطبيعية للأفراد.
وعلى خلاف هذا التصور يأتي تصور فلاسفة الحق الوضعي ومنهم «هانز كلسن» وغيره، الذين يؤسسون الحق على الأوضاع السائدة داخل المجتمع، وضمن موازين القوى المتصارعة على أرض الواقع، بمعنى أنه لا وجود لحق غير الحق الوضعي الفعلي الذي يتحدد انطلاقاً من اعتبارات واقعية.
على أن التدقيق في كلتا النظرتين يبين أن كلاً منهما توصلت إلى نتائج غير عادلة، ذلك أن تطور علاقات الإنتاج، والتعقيد الذي طال ويطال العلاقات الإنسانية والحياة الاجتماعية، يجعل من محاولة العودة إلى الطبيعة الإنسانية الأصلية، محاولة غير واقعية، ذلك أن الطبيعة الإنسانية ليست من المعطيات الثابتة، بل هي طبيعة متغيرة، وتتغير معها حاجات الإنسان ومن ثم حقوقه، ولذلك يكون القول بحقوق طبيعية للإنسان قولاً غير دقيق لأن الحقوق الفعلية للمواطن هي تلك التي تلبي حاجاته داخل مجتمعه، وفي ظل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الراهنة.
ومن ناحية أخرى، فإن تأسيس الحقوق على ما هو قائم في المجتمع سيفضي إلى تثبيتها لمصلحة الفئات المسيطرة اقتصادياً وسياسياً، ويوقعها في أسر الجمود، أو سيجعل تغيرها رهيناً بتغير موازين القوى في المجتمع. وفي كلتا الحالتين فإن تأسيس الحقوق على هذه النظرة سيؤدي إلى عرقلة التقدم الفعلي للمجتمع في ميدان الحقوق.
وبناء على ما سبق، يمكن القول على سبيل المثال، إنه إذا كان من حق المواطنين السوريين الحصول على التعليم الأساسي قبل نصف قرن، مع كل ما كان يتطلبه ذلك من بناء للمدارس وتوفير للكتب المدرسية على كل الأراضي السورية آنذاك، فإن من حق المواطنين اليوم الحصول على فرص متساوية في الوصول إلى أعلى درجات التحصيل العلمي الأكاديمي، مع كل ما يتطلبه ذلك من تحسين شروط القبول الجامعي والمحافظة على كلفة قليلة له، وتوفير الوسائل الحديثة في تحصيل المعرفة، والتواصل السريع مع الإنجازات الحضارية والثقافية في العالم.
إذا كان صحيحاً أن القانون لا يحمي إلا ما يمنحه هو نفسه من حقوق، فإن الصحيح أيضاً أن القانون يجب أن يبقى في حركية وتطور دائم لكي يواكب الحقوق «الحقيقية» للمواطن، ويجب أن يسعى إلى التوفيق بين جملة هذه الحقوق الحقيقية المعرضة للتضارب في كل لحظة، بما يحقق أعلى قدر ممكن من العدالة، ويضمن التوسيع الدائم لمساحة الحقوق الممنوحة للمواطنين، وإلا فإنه سيبقى قاصراً عن تلبية حاجات المجتمع، وسيبقى الباب مشرعاً أمام المواطنين لخوض الصراع حول حقوقهم خارج إطار القانون ومؤسساته، مع كل ما يفضي إليه هذا الصراع من تشويه للمجتمع، ولمفهوم الحق في وعي الأفراد.

معلومات إضافية

العدد رقم:
416