بدايات غير مطمئنة
تنفيذاً لتكليفي من حزبنا (حزب الإرادة الشعبية) بالترشّح إلى عضوية مجلس الشعب، ورغم ملاحظاتي العديدة على القانون الانتخابي وعلى لائحته التنفيذية، وعلى صلاحيات مجلس الشعب المحدودة، وعلى انتخابات الإدارة المحلية، وعلى المؤتمرات النقابية، وعلى الاستفتاء على الدستور، وعلى الظرف غير المناسب لإجراء الانتخابات، وعلى ألف سبب وسبب.. فقد وافقتُ على إعداد الوثائق المطلوبة للترشّح واتجهتُ إلى مبنى المحافظة في اليوم الأخير من المهلة الممنوحة لتقديم الطلبات. الازدحام على أشدّه، وأغلبية المتقدمين بطلباتهم ينتمون إلى حزب البعث العربي الاشتراكي. وجرياً على عادتي فإنني حاولتُ الوقوف بالدور. لكنني فوجئتُ بأنه لا دور ولا من يحزنون! فالكل مستعجل والشاطر من يتمكن من تجاوز غيره. حاولتُ رفعَ صوتي أكثر من مرة منادياً: (يا شباب، والله الوقوف بالدور حلو ومظهر حضاري!) ولكن لا حياة لمن تنادي..
أيقنتُ بأنني سأكون الأخير في تقديم أوراقي. فأنا لا أجيد التطحيش، ولا أتحلّى بعضلات مفتولة، ولا بثرثرة الاستجداء من أنني أنتظر منذ ساعات.. المهم، بعد انتظار وتقدّمٍ سلحفاتي باتجاه طاولة الموظف مستقبل الطلبات، وصلت. وحرصت بين الحين والآخر لفت انتباه الموظف إلى وجودي، كأن أتفوّه بكلمة عابرة، أو بتعليقٍ مقتضب.. عسى ولعلّ يلحظ وجودي ويأخذ أوراقي دون أن أنبس ببنت شفة مترجّياً كغيري. إلا أنه تجاهل دوري تماماً وكأنني غير موجود.
فجأةً وإذ بكفٍّ يربّتُ على كتفي، التفتّ مستطلعاً، وإذ برجلٍ أنيقٍ يبتسم مستوضحاً: هل يوجد معك قلم أستاذ؟ أجبته نعم وأعطيته القلم على الفور. وعدتُ برأسي متجهاً إلى الموظف، فقد يباغتني ويطلب مني الأوراق فجأةً ومن غير المناسب ألا أكون جاهزاً لذلك. وإذ بنفس الكفِّ يربّت على كتفي من جديد: أستاذ أرجو مساعدتي في تعبئة الحقول بالاستمارات (طلب الترشيح، تعهد، تصريح..) وطبعاً لم أتوانَ عن تقديم خبرتي في هذا المجال. وما إن انتهى من تسجيل البيانات في الاستمارات حتى تجاوزني وسارع إلى وضعها على طاولة الموظف قائلاً بغضب مصطنع: (أي والله أستاذ مو معقولة.. ساعة يا رجل ولا يأتي دوري!)
يا إلهي! أيّة وقاحة هذه! التفتُّ إليه مستنكراً وسدّدت نحوه نظرة احتقار، إلا أنه تجاهل نظراتي وبدأ يلحّ على الموظف بأن ينظر في أوراقه. لم أستطع كظم غيظي. شعرت بالإهانة. قلت بصوتٍ مرتفع موجهاً كلامي للموظف كونه المعنيّ بكل هذه التجاوزات: أستاذ! هذه ليست عدالة، لماذا لا تسيّرنا بالدور؟ أجاب بكسل: (بالفعل لا يوجد عدالة.. شو بدنا نساوي..) قلت له يمكنك جمع الطلبات ومناداتنا بالاسم، أو بأن تلزمنا بالوقوف بالطابور.. عيب.. يفترض أننا نتمتع بسويّة حضارية معقولة، وكلنا قادمون زاعمين أننا نستأهل أن نمثّل الشعب. وهذه مسؤوليتك. أجاب بفتور: (والله معك حق). وانكبَّ يتفقّد أوراق من تجاوزني مكتفياً بتلك العبارة المجامِلة. وكم كانت الصدمة مريرة حينما لمحتُ من بين تلك الأوراق صورة عن شهادة الدكتوراه بالفلسفة من جامعة تشرين لذلك المتجاوز الأنيق!
قلت في سرّي: هذه (النمرة) عيّنة من الذين سيتبؤون مقعداً في مجلس الشعب القادم.
في الطرف الأخر من الطاولة اشرأبَّ رجلٌ كهلٌ ووضع أوراقه على الطاولة مخاطباً الموظف بلهجة لا تخلو من الطرافة: (يا ابن عمّي لازم تراعوا الفلاحين.. يكفي انخرب بيتنا هالسنة وانضرب الموسم بسبب الأمطار. الله وكيلك بعنا الليمون بخسارة.. استلم عين عمك هالأوراق استلم..) استقبل الموظف الأوراق مبتسماً وبدأ يتفقّدها.. لحظات ويصيح به الموظف: أين الصورة عن شهادتك يا عمّ؟ أجاب المزارع باستخفافٍ وبصوتٍ أجشّ: لا يوجد معي شهادة، لكنني أجيد القراءة والكتابة.. ألم يكتف قانون الانتخاب بذلك؟ ابتسم الموظف مجدداً وأومأ بالموافقة وأمر زملاءه باستكتاب المزارع. لحظات ويعود منتصراً وبيده ورقة بيضاء كُتِب عليها وبخطٍّ كبير عبارة (بالروح بالدم أفديك سيدي الرئيس) مذيّلةً بتوقيع أعضاء اللجنة الانتخابية.
هذه المرة قلت بصوتٍ مسموعٍ: لنفترض أن هذا المزارع من المعارضة، ألا تعتبر هذه العبارة استفزازاً له؟ سارع المزارع إلى الردّ كما لو كان يدفع عنه شبهة: (لا بالله، ما زمّر ابْنيّك يا روح عمّك.. قال معارض قال، ما أحلاني والله!).
أخيراً التفت الموظف صوبي قائلاً: (ازرعها بهالدقن أستاذ، بعرف إنك انظلمت، هات أوراقك) وبدأ بتفقّدها ثم وقّع عليها وطلب مني تسجيلها عند زميله في المكتب المجاور.
زميله المجاور هذا، لا يقلّ فظاظةً عن غيره من زملائه البيروقراطيين. لدى اقترابي منه كان قدّامي عدة مرشّحين، ينتظرون سؤال الموظف التقليدي لدى استلامه الأوراق: (انتماؤك السياسي؟) فيجيب المرشّح: (بعثي). عندما جاء دوري سألني السؤال نفسه، وقبل أن أجيب شرع بالكتابة على السجلّ (بع..) عاجلته بالقول: (شيوعي، اكتب شيوعي من حزب الإرادة الشعبية). تطلّع نحوي سائلاً: (من جماعة قدري جميل؟) بلعتُ الإهانة قائلاً: (د. قدري) أمين الحزب، نحن لسنا من جماعة أحد. تمتمتُ بيني وبين نفسي: تُرى، متى سنتخلّص من هذه الأسئلة المقيتة؟
كان من بين الحضور رجلٌ سيماؤه تنضح بالحكمة والرزانة، اقترب مني هامساً: منذ وقت وأنا أراقبك، إذا كنت ستصل إلى مجلس الشعب وأنت تتحدّث بهذه الجرأة المتهوّرة، فأعتقد بأنك لن تكمل دورة المجلس إلى نهايتها.. ومن المؤكّد بأن الحصانة النيابية سوف ترفع عنك، وربما من أول جلسة.. تحلّ بالصبر يا عزيزي.. تحلّى. وانصرف.
خرجت إلى البهو مفكراً بكلماته، حاولتُ الركض خلف هذا الرجل لأقول له: سيدي نحن في حزب الإرادة الشعبية، إذا لم نستطع قول ما نريد في المجلس، فلن ننتظر عليهم حتى يرفعوا عنا الحصانة، لأننا سنكون قد قدّمنا استقالاتنا بشكلٍ جماعي.. لكنه غاب في الزحمة.