مجانين عامودا والنعت
هناك بعض الصفات يتصف به الإنسان ويكنّى بها، وعلى سبيل المثال – حاتم الطائي دلالة على الكرم، وعنترة بن شداد على الشجاعة – وبمجرد التحدث عن البخلاء نتذكر بخلاء الجاحظ وهكذا....
و في بلدنا هناك صفات غريبة وعجيبة تصبح مثل ظل المرء تتبعه أنّى ذهب، وتظل تلاحقه حتى آخر يوم في حياته ومنها صفة ( خطر على أمن الدولة) منذ أكثر من أربعين عاماً وهذه التهمة تلازمني.
حصلت على الشهادة الثانوية في السبعينيات، درست الفرع الأدبي وانتسبت إلى جامعة دمشق دون الالتزام بالدوام بسبب الظروف المادية– ورافق الدراسة الجامعية العمل في سلك التعليم بصفة معلم وكيل وذلك عام 1972.
وعندما قدمت أوراقي للتعيين في إحدى مدارس الجزيرة السورية تم رفض طلبي لماذا ؟ - اتهموني وقالوا – خطر على أمن الدولة – كانت أول صدمة بالنسبة لي، أما معظم زملائي فتم تعينهم في عامودا وقراها لأنهم كانوا بعثيين وعملاء أمن. وفي السنة الثانية قدمت أوراقي مع واسطة و«هدية» وهذه كانت تسمية مخففة للرشوة في تلك الأيام. و تم تعيني في قرية «فكة الفدغمي» وكم كان فرحي كبيرا عندما سمعت خبر تعييني لأنه يعني أني سأكمل دراستي الجامعية.
وللوصول إلى هذه القرية كنت أسافر من عامودا إلى القامشلي – ومن القامشلي إلى الحسكة –ومن الحسكة على طريق دير الزور – وفي الشدادة أنزل من المكرو – ثم أركب دراجة نارية اتجهلُ شرقاً حتى أصل إلى نهر الخابور – بعدها اركب زورقاً صغيراً لأقطع نهر الخابور - وبعد اجتيازي هذا النهر كان هناك حصان أو حمار في انتظاري ليكمل مشوار وصولي الى القرية وأتذكر أول مرة عندما سألت (وين اتجاه القرية يا أخي) أجاب اترك الحمار على كيفو هو يوصلك. وبا لفعل الحمار أوصلني إلى القرية بعد نصف ساعة. وبالطريقة نفسها أعود إلى بلدتي عامودا.
السكان في هذه القرية كانوا في فقر مدقع بقيت سنة كاملة فيها كانوا يقدمون لي يومياً وجبات غذائية وهي عبارة عن قليل من التمر و السمن، أو بعض من الدبس وقليل من السمن فقط ولا يوجد فيها أي دكان. بقيت أكثر من عشر سنوات معلماً وكيلاً في القرى البعيدة في اليعربية والمالكية والحسكة وحتى بعد حصولي على الشهادة الجامعية بقيت معلماً وكيلاً في تلك القرى البعيدة لماذا بسبب التهمه نفسها.
في عام 1983 تم تعييني مدرسا في ثانوية المعري وكان المدير متهماً بالتهمة إياها فيما مضى، ولكن يبدو انه «تطهّر» من تلك الصفة وأصبح هو من يقيّم المدرسين وأثناء التقييم في بداية العام الدراسي لاحظت أنه يكتب بجانب اسمي شيوعي خطر على أمن الدولة وبقيت التهمة تلاحقني حتى نهاية الخدمة في عام2011 م.
بدأ الحراك الشعبي السلمي في الشارع السوري وفي بلدتي أيضاً وكنا جزءاً من هذا الحراك منذ البداية، نوجه الشباب ونرفع الشعارات والصور والمطالب وأسسنا لجنة السلم الأهلي ليكون هذا الحراك سلمياً وحضارياً – وعندما شعرنا بان هناك من يريد النيل من هذا الحراك سواء من النظام أو من بعض الأشخاص الذي يدّعون أنهم مع الحراك نبهنا إلى ذلك.
وكانت الصدمة عندما اتهمنا البعض بأننا لسنا مع هذه المظاهرات ولانفهم شيئاً في السياسة. والمصيبة إن الاتهام الموجه إلينا كان من بعض الناس الذين كان لهم تاريخ طويل في العمالة ولكل الجهات الأمنية واذكر مثالا على ذلك = حدث خلاف بين اثنين من هؤلاء. قال الأول للثاني: مهدداً بكرا تشوف حالك – أجابه الثاني أنت راح تشوف حالك – إذا أنت عميل لجهة واحدة أنا عميل لكل الجهات.
نشأتهم مشبوهة وتاريخهم أسود – لم يسلم أحدٌ من تقاريرهم أساؤوا إلى الكثير من الناس الشرفاء الأبرياء. وألان أصبحوا يدعون أنهم من المعارضة، وثوار وبات صوتهم أعلى من كل الأصوات، وفي ظنهم بأنهم سيمحون ذاكرة الناس، و«يغسلون» تاريخهم القذر، برفع أصواتهم – ولكنهم لايعلمون أنه حتى لو صارت كل جبال وهضاب العالم قوالبً من الصابون – ولو استخدموا مياه محيطات العالم الخمسة والبحار العشرة وكافة الانهار في العالم فأنها لاتستطيع تنظيفهم من القذارة العالقة بهم لان تلك القذارة أصبحت جزءا من أجسادهم.