أوراق خريفية ... «معارض مع وقف التنفيذ!»

كرع بطحة عرق دون كسر، وثلاثة أكواب من شراب اليانسون.. وأوى إلى فراشه. محاولاً الإطاحة بمشاعر الذعر والاضطراب التي انتابته منذ أن قرر عدم المشاركة بالتصويت في الانتخابات!

(ياألله...! لو تقوم الحرب، أو يحدث زلزال، أو فيضان.. أو اية كارثة طبيعية كبيرة...أكيد عندئذ لن يفكروا بي ولا بامتناعي عن التصويت! أصلاً مين أنا!؟ أنا نكرة.. أنا حشرة لاحول لها ولاقوة..!

 

ياعمي موقف زوجتي كان مطلق الصح! بالفعل تبين أن أمثلتها فيها نصيب كبير من الحقيقة: «لاتنام بالقبور ولاتشوف كوابيس... اللي بيتجوز أمي بناديلو عمي».. يالطيف تلطف يا رب! أكان من الضرورة لي اتخاذ مثل هذا الموقف!؟ على كل حال، مشورة زوجتي في مكانها: «أنا مريض، بل مريض جداً.. ولكن، تعالهون! لنفترض أنهم طلبوا مني إثباتاً على ذلك! تقرير طبي.. شهود .. إلخ هم يعرفون كل شيء! إنهم يحصون أنفاسنا.. وعدد الشعرات التي تسقط يومياً من رؤوسنا..! هل سيخفى عليهم سبب امتناعي عن التصويت..؟! يا رجل! هونها بتهون.. هل بات من الصعوبة بمكان،  الحصول على تقرير طبي..! كبر عقلك يا رجل! أصلاً لاأذكر أنه سبق وتم اعتقال أي شخص لامتناعه عن التصويت..! بس مين بيعرف ساعة الغفلة! والله ياعمي أفضل شيء »حط راسك بين الروس وقول يا قطاع الروس».. سوف أنتخب غداً.. وعمرو ما حدا يورث..! أصلاً صوتي لن يقدم ولن يؤخر.. مين أنا يا حسرة..! بلا معارضة بلا بطيخ! ناقصنا والله!)

طمر رأسه تحت الوسادة إمعاناً منه بالحصول على مزيد من العتمة، واستسلم بشكل نهائي لقرار المشاركة بالتصويت. فما زال أمامه متسع من الوقت، طالما أن الانتخابات مستمرة حتى ظهيرة الغد.. أحس بأن جبالاً من الهموم والمخاوف قد تبددت تدريجياً وبدأت وبالتلاشي.. وغط في نوم عميق.

عندما استيقظ، كانت الساعة تشير إلى الرابعة عشره إلا ربعاً!! التفت إلى زوجته بنظرة تحمل كل معاني التوبيخ والتأنيب وتمتم: )ألم يكن بمقدورك إيقاظي قبل هذا الوقت! فعلاً إنك جيفة نوم!) فرك عينية قليلاً، وفجأة أدرك ضيق الوقت لديه!! )يا إلهي! لم يبق سوى ربع ساعة!) خلع ولبس كيفما اتفق. وهرع باتجاه أقرب مدرسة في الحي! لكنه لم يصل إلا بعد انتهاء عملية الاقتراع وبدء فرز الأصوات!!

حاول جاهداً إقناع رئيس المركز بممارسة حقه، بل واجبه الوطني! ولكن دونما جدوى! رجاه.. توسل إليه.. قال له: طيب، أرجوك اعمل معي معروفاً واعطني تصريحاً بأنني وصلت إليكم متأخراً دقيقتين.. أرجوك مستعد لتقبيل يديك ورجليك!

بهت رئيس المركز من هذا الرجل وأجابه باستغراب واستنكار وسط ذهول باقي أعضاء اللجنة والوكلاء:

■ مابك يارجل!؟ شو تصريح وام تصريح؟! شو مجنون إنت؟! اذهب من هناودعنا نعمل..! هه...! حلو والله؟!!

■■ أرجوك يا أستاذ ارحمني..! عندي زوجة وأولاد ومعيل لأمي وأبي العجوزين.. ومديون.. الله وكيلك وكيل السماوات والأرض.. يستر عرضك يا أستاذ!

■ ولك أخي لاتصرعني منشان محمد! بتروح من هون وإلا بخلي الشرطة يودوك على بيت خالتك؟!

■■ (متضرعاً بلهفة الثكلى) دخيلك..! والله ما كان قصدي، الله وكيلك مبارح كنت مريض خير الله ولم أستطع النوم حتى الفجر! شربت يانسون و... سبحان الله، نمت، وأنا نومي ثقيل... ولم أستيقظ إلا منذ ربع ساعة.. ركضت ركضاً إلى هنا...و...

■ فعلاً إنك مسطول! عمي! وصلت معي لهون ها (مشيراً بإصبعه إلى ما بين عينيه) للمرة الأخيرة أقول لك انقلع من هون!

■■ (باكياً بحرقة) منشان الملائكة.. يخليلك كل محب! شو خسران أستاذ! إذا أعطيتني تصريح ينالك ثواب عند رب العالمين!...

■ ولك عمي تصريح شو!؟ شو بدك تستفيد منه؟!

■■ الم اقل لك منذ هنيهة، تصريح أنني جئت إليكم متأخراً لأشارك بالتصويت! فإذا سئلت من قبل أحد ما، يكون معي إثبات أنني مواطن صالح.. يخاف الله والحكومة..! أنا لا أريد أن يقال عني أنني ـ لا سمح الله ـ ضد الحكومة!

ابتسم رئيس المركز، واقترب من الرجل، وربت على كتفه بحنان مهدئاً روعه وقال:

■ اذهب يا عم اذهب! ولاتخف، لست وحدك ممن لم يشارك بالتصويت.. هناك الكثير أمثالك.. ولكن إياك أن تعيدها مرة ثانية هه..! فهمت؟!

■■ (بسرور عظيم) يعني ما في عقوبة ولا من يحزنون؟!

■ (ضاحكاً) ما في..

■■ (غير مصدق) أكيد ما في؟!

■ أكيد...

هجم الرجل على رئيس المركز بفرح غامر وقبله بعنف ورفع يديه إلى الأعلى صائحاً:

■■ يا عيني الله... عيني الله...

وبدأ يقفز بطرب عائداً إلى بيته كبطل مكلل بتيجان النصر..