وزارة الصحة.. فساد مبرمج، تلاعب بالأدوية، سرقات بمئات الملايين
لا يمكن التعاطي مع ملفات الفساد في وزارة الصحة والمشافي والمراكز الصحية التابعة لها في المحافظات كافة، كبقية ملفات الفساد في الوزارات والمؤسسات الأخرى، فالفساد في هذا القطاع خطورته شديدة وآثاره وخيمة، كونه يتسبب بشكل مباشر وسريع في كوارث اجتماعية حقيقية تصل حد تهديد سلامة المجتمع والدولة، وأقل تداعياته قد تكون موت أبرياء، أو تسممهم، أو تركهم لمصيرهم في مواجهة الأمراض والأوبئة والعوارض الصحية المختلفة..
مناسبة هذه المقدمة هو ازدياد تفشي ظاهرة الفساد في قطاع الصحة في الآونة الأخيرة، مما يمكن أن يعني بأن هناك فساداً مبرمجاً وممنهجاً يجري فيه، غايته، عدا الإثراء غير المشروع طبعاً لبعض مسؤوليه، ضرب أية نتائج إيجابية محتملة لوجود نظام صحي سليم وشامل و«نظيف» وعادل.. والوقائع التالية، المؤيدة بالوثائق، تثبت ذلك..
سرقة أدوية
ترصد الدولة سنوياً ما يعادل /7/ مليار ل.س لتأمين الدواء بشكل مجاني للمواطنين، إلا أن الناس لا يصلهم من هذه المليارات إلا الجزء اليسير، أما الباقي فيذهب لجيوب بعض المتنفذين والمسؤولين الفاسدين، أو يذهب هباءً.. وإلا فما معنى أنه كل عام، مع قيام وزارة الصحة بتشكيل لجان لإتلاف الأدوية، تظهر كميات كبيرة من أنواع متعددة من الأدوية فسدت في مستودعات وزارة الصحة، رغم أن الطلب على معظمها أثناء بقائها مخزنة حتى انتهاء مدة صلاحيتها كان كبيراً؟؟ هذا يعني أحد أمرين إما سوء شديد في الأداء الإداري، أو عدم استجرار هذه الأدوية وفق الحاجة والأولويات.. فمثلاً، لقد ازدادت نسبة الأمراض المزمنة «الكبد، السرطان، الكلية، القلب والهضم» في سورية، خلال السنوات الأخيرة، وعلى التوازي قامت الدولة بزيادة ميزانيتها للدواء من /2/ مليار عام 2004 إلى أكثر من /7/ مليار خلال عام 2010، ومع ذلك نلاحظ أن أمين المستودع العام للأدوية ظل خلال فترة سبعة أشهر 9/2009 وحتى الشهر الماضي، يشير إلى وجود أدوية قاربت على انتهاء الفعالية، وهي ستتلف، ويسأل المسؤولين في الوزارة ماذا يفعل بها؟ والغريب الذي تؤكده كتبه ومراسلاته أن الأمر لم يعن أحداً وكأنما لا حياة لمن تنادي، ولاوجود لأية آلية للمتابعة والمحاسبة..
ويظهر أيضاً أن كميات الدواء المشتراة، يتم شراؤها دون أية دراسة دقيقة، إنما حسب مصالح الشركات والعمولة التي تدفعها لبعض المسؤولين في الوزارة، وتكون النتيجة وجود فائض لا يعرف كيف يتم الاستفادة منه، وغالباً يكون مصيره التلف.
على حساب مرضى التلاسيميا
تدفع الدولة سنوياً أكثر من /600/ مليون لشراء أدوية لمرضى التلاسيميا ومعظمهم من الأطفال، وتوفيرها مجاناً، لكن حسب الثبوتيات التي بين أيدينا يتضح وجود تلاعب دائم بهذه الأدوية، ومؤخراً جرت سرقة بعشرات الملايين دون مساءلة أحد، فقد تم استلام أدوية بقيمة /72/ مليون ل.س
دون دخولها أصولاً لمستودع الأدوية!! والسؤال كيف تم توزيعها مباشرة؟ ولماذا قام وزير الصحة بتغيير عدة مدراء لبرنامج التلاسيميا خلال فترة أقل من عام دون ذكر الأسباب؟، وماذا عن كتاب مدير الرقابة الداخلية في 29/12/2009 الذي يشير فيه صراحة إلى ضرورة تشكيل لجنة لجرد الأدوية الموجودة في مستودع مركز التلاسيميا ليصار إلى إعادة إدخالها إلى مستودع الأدوية بشكل أصولي؟. ولماذا لم يُحوّل المقصرون إلى الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش؟ وكيف يطلب مدير الرقابة الداخلية إعادة إدخال أدوية هي غير موجودة أصلاً، وتؤكد أمينة مستودع مركز التلاسيميا بأنها وزعت على المرضى؟.
لقد تم إعفاء أمينة مستودع الأدوية لعدم موافقتها على إدخالها الأدوية على القيود، فنقلت إلى بناء الوزارة في الميسات، ولدى مراجعتها للوزير وإخباره بالموضوع وعدها بالتدقيق، لكنه لم يقم بذلك، ومرت..
أدوية منتهية الصلاحية.. دون مناقصات
سبق أن أتلفت الوزارة العام الماضي كمية كبيرة من أدوية مرضى السل، بسبب انتهاء الفعالية واستجرار كميات كبيرة فائضة عن الحاجة، وقد كانت هنالك محاولات للعب في مدة الصلاحية بناء على اقتراح مسؤول في الوزارة وطلب من مديرية مخابر وزارة الصحة تأكيد فعالية الدواء، ولم يعرف لتاريخه مصير الأدوية.
أما عن مواد الطوارئ فيتم شراؤها على شكل طلبات شراء، دون أن يجري لها مناقصة أو استدراج عروض أسعار.. والأمثلة كثيرة، فقد وافق مسؤول في الوزارة في 29/7/2009 على شراء آلات ومواد مخصصة للطوارئ على شكل طلبات شراء بقيمة تقارب /3/ مليون ل.س، من بينها معدات ثابتة(!)، انتهازاً للفرصة التي وفّرها قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 9233/1 تاريخ 2/11/2009 بالسماح لوزارة الصحة باستجرار الأدوية شراءً خلافاً لتوصية الجهاز المركزي للرقابة المالية، فكرّت السبحة، وجرى استجرار أدوية مرضى زرع الكلية من شركة PANACBA الهندية، دون أي عقد أو طلب رسمي للحاجة المطلوبة من الربع الأول من عام 2010، وتم تأخير التعاقد مع الشركة السابقة التي كانت تستورد منها الوزارة، مما أدخلها في إشكالات، لذلك فهي تحضر الآن عقداً لاستجرار الحاجة السنوية لعام 2010، بشكل يوزع مناصفة بين الشركتين، بحيث لا ينزعج أحد!! فهل هذه الطريقة هي المناسبة لاستجرار أدوية تمس حياة العديد من مواطني سورية؟ ولماذا لا يتم الإعلان عن مناقصة تحقق العدالة لمن يرغب بالتقدم وفق دراسات ومعايير واضحة المواصفات لاختيار الأفضل، طالما أن الدولة تدفع الكثير من موازنتها في سبيل تأمين الدواء، ومن المؤكد أن الدولة ستستلم عروضاً كبيرة تساهم في توفير دواء مناسب وتخفض أسعاره، والغريب أن المؤسسة العامة للتجارة الخارجية في كتابها في 14/3/2010 تشير إلى وجود شركتين مسجلتين فقط، وتطلب استجرار الدواء منهما طبعاً الشركة الهندية وراءها أحد أصحاب معامل الدواء، وهو صديق شخصي لأحد المسؤولين الكبار، أما الشركة الثانية فوكيلها شركة (م)، وأصحابها أيضاً لا يستهان بهم!!
تجهيزات طبية مفقودة
قام الاتحاد الأوروبي بتقديم منحة لشراء تجهيزات طبية بقيمة /9/ مليون يورو لتجهيز خمسين مركزاً طبياً، إلا أن الاتحاد الأوروبي وبعد شراء التجهيزات تفاجأ من خلال زيارته للمراكز بوجود نصف هذه التجهيزات فقط، وحالياً تتابع الجهات الرقابية هذا الموضوع من خلال مفتشيها، ونتمنى ألا يطوى هذا الموضوع كغيره من المواضيع. والمفارقة أن برامج التعاون الدولي قد تم تحويل تحويلاتها المصرفية إلى مدير البرنامج في الوزارة، فأين دور مسؤولوا الوزارة ومديرية الشؤون المالية في معالجة خطأً كهذا؟ وهل هنالك قانون يسمح بتحويل أموال من الجهات الدولية إلى حساب خاص لمدير برنامج في دائرة أو وزارة ما؟.
هدية مجانية.. أم؟؟
من جهة أخرى، بدا أن هناك خللاً في تنفيذ مناقصة توريد وتركيب تجهيزات ستة مشاف سعة كل منها /60/ سريراً حيث قامت وزارة الصحة بالإعلان عن مناقصة لتجهيز ستة مشافي سعة /60/ سريراً في محافظات ريف دمشق ـ السويداء ـ طرطوس، ممولة من بنك الاستثمار الأوروبي، بقيمة تقديرية للمناقصة بلغت /12/ مليون يورو (وهو مبلغ التمويل المتفق عليه مع بنك الاستثمار الأوروبي).
قام أحد المدراء السابقين في الوزارة بزيادة الكميات المطلوبة من وسائل النقل والأجهزة المخبرية والفرش الطبي بما قيمته /2.3/ مليون يورو، مما رفع القيمة التقديرية للمناقصة إلى /14.3/ مليون يورو، إلا أنه وبعد المناقشة مع مسؤوليه وعدد من المدراء تم إلغاء هذه الزيادة من التجهيزات لعدم الحاجة لها، فقام المدير السابق ذكره بالإلغاء، إنما لم يغير القيمة التقديرية والبالغة /14.3/ مليون يورو وبقيت كما هي، وطبعاً من خلال التنسيق مع وكلاء شركة انزو الإيطالية.
وبالتالي تم رفع سقف الربحية للشركات العارضة، وقدم مبلغ /2.3/ مليون يورو بدون وجه حق لها، وبدون أن تقدم أية تجهيزات مقابل هذا المبلغ.
بعدها تم الإعلان عن المناقصة وقدمت ثلاث شركات عروضها للمناقصة، فرفضت فنياً شركة واحدة وهي الشركة الألمانية التي تعتبر من الشركات المتميزة عالمياً بتنفيذها وتجهيزها لعدد كبير من المشافي، وبقيت شركتان، ووضعت العلامة الأعلى لشركة انزو.
ولدى قيام لجنة المناقصات بفتح المغلف المالي وبمقارنة العلامة الاقتصادية فازت شركة انزو الإيطالية، رغم أن سعر وعرض الشركة الثانية كان أقل، إنما لكون علامتها الفنية أقل لم تفز، ونظراً لتجاوز سعر شركة انزو القيمة التقديرية القانونية والمقدرة قبل الإعلان عن المناقصة بنسبة /5%/،
طلبت لجنة المناقصات من الوزير الموافقة على قبول القيمة المالية لعرض شركة أنزو رغم كونه أعلى من القيمة التقديرية بنسبة /5%/، وقد وافق الوزير استثناءً على تجاوز القيمة التقديرية وتوقيع العقد مع شركة انزو.
أفليس من الضروري إلغاء هذه المناقصة ويعاد للدولة حقها وتوفير /2.3/ مليون يورو، وخاصة أن العقد لم يتم المباشرة بتنفيذه لتاريخه، ولم تحول أية مبالغ للشركة؟ وقد اعترضت عدد من الشركات رسمياً لدى الوزير على هذه القيمة المرتفعة، وإحدى هذه الاعتراضات جاءت باقتراح أن تقدم شركة انزو مجاناً تجهيزات تعادل هذه القيمة، طبعاً لم يتم الأخذ بأي من هذه الاعتراضات وبقي كل شيء على حاله.
مجاملات.. ومصالح غير مشروعة!!
وجهت شركة نستلة دعوة لوزارة الصحة لاستضافة عدد من المعنيين في الوزارة لزيارتها، فقام الوزير بترشيح أحد معاونيه وأحد مدراء التخطيط والتعاون الدولي، وعلى الرغم من أن الدعوة كانت ممولة بشكل كامل من شركة نستلة إلا أن نفس المسؤول طلب من الشركة توجيه دعوة أخرى (مزيفة) تشير فيها أنها لن تستضيفهم، وطلب أيضاً تغطية نفقات سفر زوجته وزوجة المسؤول الآخر مقابل استجرار وزارة الصحة لأدوية ومستلزمات طبية وحليب للأطفال من شركة نستلة، وقد تمت الزيارة بشهر تشرين الثاني في العام الماضي 2009، وجرت تغطية نفقات السفر في الوزارة، رغم أن شركة نستلة غطت كامل نفقات السفر، وبالتالي قبض كل منهما تعويضات من الطرفين، من الشركة والدولة معاً.
بينما غطت الشركة نفقات سفر زوجتي كليهما.. والسؤال: لماذا لم تسافر معاونة الوزير لشؤون الدواء ومدراء الدواء لهذه المهمة؟ وما علاقة هذين المسؤولين بشركة نستلة ؟ أما كان من الأجدر إرسال الفنيين للزيارة إذا كانت ضرورية إلى هذا الحد.
وحالياً يعمل أحدهم على إنشاء مشفى في البناء المجاور لمشفى الهلال الأحمر في شارع بغداد في دمشق كشريك أساسي مع عدد من الأطباء، وبدأت شركات التجهيزات الطبية بالمساعدة بتوفير التجهيزات الطبية للمشفى مقابل تعاقد الوزارة معها بالتراضي.. كما يحاول الاستفادة من منصبه لإقناع الوزارة بتغيير طريقة المناقصات من خلال اللجوء إلى العقود بالتراضي أو إعلان داخلي لمدة خمسة وعشرين يوماً، لحصرها في شركة طبية واحدة، ومن الطبيعي ألا تتمكن باقي الشركات الطبية من تقديم عروضها خلال خمسة وعشرين يوماً، وخير أمثلة على ذلك جميع الإعلانات التي نشرتها وزارة الصحة من بداية العام الحالي ولتاريخه، بينما من الضروري أن تكون المناقصات لمدة تزيد عن الخمسين يوماً وإعلانات خارجية، وليس داخلية، فمن المعروف أن سورية لا تصنع تجهيزات طبية، ولا تتوفر فيها صالات عرض تجهيزات طبية، إنما يتم الاستيراد وفق الحاجة، وبالتالي فإن طريقة المناقصة الداخلية هي احتيال، حيث يقوم التاجر بالحصول على معلومات كافية عن المناقصة ودفتر شروطها قبل الإعلان عنها ويقوم باستيراد الجهاز، وعندما تعلن الوزارة المناقصة يكون جاهزاً لتقديم العرض وضمن فترة محدودة، عكس باقي الشركات التي تحتاج لوقت يزيد عن ثلاثة أشهر للتوريد.
تخبط في اتخاذ القرارات
تعيش وزارة الصحة حالياً حالة من التخبط الكبير بسبب غلبة المصالح الذاتية والعلاقات الشخصية والمجاملات.. وأشياء أخرى ترفّعنا عن الخوض فيها، فمثلاً صدرت خمسة قرارات للجنة المناقصات خلال يومين، في كل قرار كانت هنالك أسماء جديدة، ويرجح البعض أن السبب هو رغبة خفية بتمرير مناقصة لشركة محددة، لكن أعضاء اللجنة رفضوا ذلك لمخالفتها دفتر الشروط الفنية.. وفي إحدى المرات استقر الأمر على مناقصة لشراء /60/ جهاز تنفس صناعي لمرضى أنفلونزا الخنازير، فقام مسؤول صحي كبير بإجراء عقد بالتراضي مع إحدى الشركات بقيمة /2.2/ مليون يورو، لكن لجنة المناقصات رفضت تأشير العقد، فأرسله على مسؤوليته لمجلس الوزراء..
ومن الأمثلة المريبة ما يحكى عن سعي مسؤول صحي كبير منذ مدة لخطب ود خبيرة ألمانية تم استقدامها بداية عام 2009 للمساعدة في مشروع يموله الاتحاد الأوروبي في وزارة الصحة لتطوير القطاع الصحي، وكان يفترض وفق العقد المبرم معها أن ينتهي عملها نهاية الشهر السابع من العام الماضي، إنما لدى حضورها في إحدى الاجتماعات طُلب من سفير الاتحاد الأوروبي تمديد عملها لمدة عام لتعيينها مديرة لمكتب مسؤول مرموق، فاعتقد السفير الأوربي أن الطلب جاء على سبيل المزاح، لكن مع إرسال كتاب رسمي في اليوم التالي بدا الأمر جاداً، خصوصاً أن الكتاب تضمن تفاصيل مالية للعرض، وللعلم فإن الراتب اليومي لهذه الخبيرة وصل إلى /640/ يورو، أي أن الكلفة السنوية للتمديد تصل إلى /230/ ألف يورو، إلا أن سفير الاتحاد الأوروبي أصر على إنهاء عملها وغادرت سورية في 30/4/2010.
خاتمة لم تنته صلاحيتها بعد
من المؤسف جداً أن أي دعم طبي أو إنساني، داخلي أم خارجي أصبح قابلاً للمساومات المادية، وللمصالح الشخصية على حساب أرواح المواطنين وبراءة الطفولة، أن هذا التحقيق يعتبر مساهمة قوية بنظرنا في بناء صحافة تساهم بجدارة في مكافحة الفساد، في وقت وزمن نجد فيه الحكومة تتجاهل مئات التحقيقات والمقالات التي أثبتت الحياة صحتها، والتي كشفت عن صفقات كبيرة من الفساد الاقتصادي والإداري المتنوع الغايات، دون أن نرى سوى تحركات خجولة من الحكومة نحو الجهات المتهمة بالفساد، ولتعطي للفاسدين المبرر في اتهام الصحفيين بنشر أخبار كاذبة أو اتهامهم بالقدح والذم دون العناء أو التأكد مما تم نشره، فهل نشهد تحقيقاً في الفساد الذي يشهده وزارة الصحة؟ أم أن للأمور خيوط أخرى ستفضح الجميع... وللحديث بقية...
■عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.