د. قدري جميل: يجب أن تعكس الأجور مستويات الأسعار

سلطت الزميلة «الاقتصادية» في عددها 421 الذي صدر في 13/12/2009 الضوء على مسألة رفع الأجور في سورية، وحاورت في هذا السياق الباحث الاقتصادي د. قدري جميل، الذي أكد أن الدخول في موضوع زيادة الأجور وأثرها على الاقتصاد يتطلب الإجابة عن سؤالين؛ الأول: «كم يجب أن تكون زيادة الأجور؟» فالأجور حسب قوله يجب أن تعكس مستويات الأسعار التي من خلالها يجب أن يؤمن المواطن العادي الحد الأدنى لمستوى المعيشة.

ولذلك أشار د. جميل إلى أن «الحديث عن الشكل المثالي من التوافق بين الحد الأدنى للأجور والحد الأدنى لمستوى المعيشة يجب أن يكون موضوعياً، وهو اليوم يدور حول ضرورة أن تكون الزيادة بنحو ثلاثة إلى أربعة أضعاف، وهذا يعكس أنه جرى تخلف تاريخي بين الأجور ومستوى الأسعار، أي إن الهوة بين هذين الطرفين كانت آخذةً بالازدياد خلال الفترة السابقة فالهوة لم تكن خلال السبعينيات بالحجم نفسه التي هي عليه اليوم».
وإذا كان الحد الأدنى للأجور اليوم هو 6100 ليرة للفرد الذي يعيل خمسة أفراد هم عائلته، فإن الحد الأدنى للمعيشة لعائلة من خمسة أفراد فهو حسب ما يورده الاقتصاديون أقل بقليل من 25 ألف ليرة في الشهر، وحسب ما تورده الحكومة في أرقامها الأخيرة يتعدى 30 ألف ليرة، وهو في الحالتين حسب د. جميل «رقم كبير بالمقارنة بالحد الأدنى للأجور، لذلك فإن زيادة الأجور المطلوبة- إذا كانت جدية- هي أربعة أضعاف الحد الأدنى الحالي».
أما السؤال الثاني الذي يطرحه د. جميل بعد الإجابة على (كم) هو: «من أين يجب أن تكون زيادة الأجور؟» ويرى د. جميل أن «هناك طرقاً عديدة نظرياً لزيادة الأجور، الأولى تتلخص بطباعة العملة دون أن يقابل ذلك زيادةً في الناتج»، وحسب اعتقاده فإن «زيادة الأجور بهذه الطريقة إلى 100 بالمئة عبر طباعة العملة بالمقابل، لن تسبب تضخماً بحجم زيادة الأجور نفسه، بل أقل بكثير ويشير د. جميل إلى أن هذا الكلام نظري ويحتاج إلى دراسة أعمق، ويتابع: لكن الدراسات الأولية تقول إن ضخ كمية عملة تغطي 100 بالمئة زيادات الأجور فإنها ستسبب نسبة تضخم لا تتعدى 10 بالمئة في حال تم ضبط سقف الأسعار ولم يترك مفتوحاً لأصحاب السوق ليلحقوا بأسعارهم»، ومن ثم فإن زيادة الأجور بهذه الطريقة بنسبة 100 بالمئة ستؤدي إلى تضخم 10 بالمئة وهذا يعني حسب قول الباحث إن ازدياد الأجور بنسبة 90 بالمئة، وهذا «ليس مؤشراً جيداً» حسبما يوضح د. جميل لأنه يدل على عطش شديد في سوق الاستهلاك القادرة على امتصاص كل هذه السيولة، ويرى الباحث الاقتصادي أن هناك مشكلةً في هذه الطريقة وهي «أن الأموال التي ستمتصها سوق الاستهلاك ستذهب إلى تجار الجملة والمفرق المتحكمين بالسوق الذين سيلجؤون إلى رفع أسعارهم»، وهم أحياناً كما أثبتت التجربة يباشرون بضربات رفع أسعار استباقية قبل رفع الأجور، ورأى د. جميل أن استخدام هذه الطريقة يتطلب «الكثير من التحكم الحكومي».
وأمام التساؤل عن قدرة الحكومة على ممارسة رقابة فعالة على السوق، وكثرة الأدلة التي تشير إلى أن هذا أمر غير ممكن التحقيق ومن ثم إلى صعوبة استخدام الطريقة الأولى المتمثلة بطباعة العملة (أو التمويل بالعجز)، يشير د. جميل إلى وجود طريقة ثانية وهي «رفع أسعار السلع التي تحتكرها الدولة مثل المحروقات» وهذه الطريقة رغم أنها تؤمن موارد إضافية للخزينة ولكنها حسبما أثبتت التجربة لا تؤدي إلى النتيجة الإيجابية المطلوبة، وذلك حسب د. جميل «لأن المواد والسلع التي تحتكرها الدولة هي مواد إستراتيجية ومن ثم فإن رفع أسعارها يسبب ارتفاعات لا متناهية في جميع المجالات فلا يؤدي ذلك بالنتيجة إلى الغرض المطلوب منه».
إذاً، ما الحل؟ يقول د. جميل: «هناك الطريقة الثالثة، وهي رفع الأجور على حساب الأرباح، فمن المعروف للقاصي والداني أن نسبة الأجور مقابل الأرباح في الدخل الوطني لسورية هي 20 مقابل 80 بالمئة وفي أحسن الأحوال 25 مقابل 75 بالمئة، أي إن هناك خللاً هيكلياً بين الأجور والأرباح في سورية على حين مثلاً في الولايات المتحدة الموغلة في الرأسمالية تبلغ نسبة الأجور مقابل الأسعار 50 بالمئة من الدخل الوطني الأميركي- وهذا طبعاً حسب قول الباحث بغض النظر عن أن أصحاب الأرباح هم قلة قليلة جداً وأصحاب الأجور هم الأغلبية العظمى في المجتمع هناك- وفي فرنسا تبلغ نسبة الأجور للأرباح من الناتج الوطني 40 مقابل 60 بالمئة»، ولتفسير علاقة الأرباح بالأجور وتأثيرها على عملية إعادة الإنتاج يوضح د.جميل أن «هذا أمر مفهوم في البلدان الرأسمالية لأن مستوى الأجور يؤمن مستوى الطلب ومن ثم يؤمن مستوى مقبولاً لدوران الآلة الإنتاجية أي يؤمن استمرارية عملية إعادة الإنتاج، وإذا قلنا إن مستوى الأجور في سورية مقابل الأرباح هو 20 بالمئة مقابل 80 بالمئة فهذا يعني وجود خلل عضوي في علاقتهما، وهذا الخلل يثبّت اليوم بدل السير في طريق ردم الهوة والتخلص منه».
أما أثر الرقابة الحكومية المتقطعة وما تتخذه من إجراءات لضبط الأسعار والمحافظة على القدرة الشرائية لرواتب الموظفين فيرى د. جميل أنه قبل الحديث عن الرقابة وعن «السياسات الضريبية التجميلية» مقابل حالات ارتفاع الأسعار المستمرة المشهودة في البلد «يجب الحديث عن تغيير جذري في المعادلة بين الأجور والأرباح» وهذا التغيير لا يمكن أن يمر حسب قوله «إلاّ عبر عملية جراحية مؤلمة- شئنا أم أبينا- يجب علينا إجراؤها عاجلاً أم آجلاً»، وهذه العملية الجراحية التي يراها د. جميل ضروريةً تتمثل بـ«استئصال جزء من كتلة الأرباح وتحويلها نحو كتلة الأجور»، ولكن قبل ذلك يؤكد د.جميل ضرورة أن يتم «تحديد مكان الاستئصال السليم»، موضحاً: «إذا علمنا أن الفساد هو في أقل تقدير يمثل 20 بالمئة من الدخل الوطني فهذا يشير إلى مكان الاستئصال السليم الذي يمكن على أساسه رفع الأجور، وقد يقول البعض عن هذا الكلام إنه نظري، ولكن كل خطوة عملية سبقها تفكير نظري يكون اختزالاً لجميع التجارب السابقة ودون النظري لا يوجد عملي صحيح، لذلك فإن السؤال الأساسي الآن هو: من أين يجب تأمين زيادة الأجور؟!».
إن الكلام السابق يفيد بأنه من الواضح أن زيادة الأجور بنسبة 100 بالمئة على حساب الأرباح لن تحل المشكلة نهائياً، ولكن د.جميل يرى أن «زيادتها بهذه النسبة سترفع نسبتها إلى 40 بالمئة مقابل الأرباح، أي إلى الضعف، وهذه مجرد خطوة على طريق تحقيق زيادة الأجور أربعة أضعاف، فزيادتها ضعفاً في المرحلة الأولى يعني أن المتبقي للوصول إلى الصيغة النهائية المطلوبة في المرحلة الثانية هو مضاعفتها مرةً أخرى، ويمكن معالجة المضاعفة التالية ضمن خطة متوسطة المدى ولكن تحقيق زيادة الأجور أربعة أضعاف دفعة واحدة لا يمكن معالجته دون إجراء جذري، أما حين تتضاعف الأجور مرةً أولى (100 بالمئة) ويتم إصلاح الخلل الهيكلي بشكل نهائي، فحينها يمكن الحديث عن سياسات ضريبية فعالة مركزة على أصحاب الدخل اللامحدود المستفيدين الأوائل من رفع الأسعار، بحيث يؤدي كل رفع في الأسعار عندئذ إلى زيادة الضريبة وإعادة الفارق إلى أصحاب الأجور»، وهذا الإجراء حسب د.جميل «ليس إجراء إدارياً وإنما هو إجراء اقتصادي- اجتماعي، وإذا تم وضع هذه الآلية موضع التنفيذ فإنها تؤمن التوازن المستمر بين الأجور والأرباح بغض النظر عن مستوى ارتفاع الأسعار لأن قيمة الأجور الشرائية ستكون مؤمنةً، أي إن الطلب سيكون مؤمناً حينها، وهذا يعني تأمين الاستهلاك ومن ثم تأمين استمرار عملية إعادة الإنتاج في المجال السلعي تحديداً».
يمكن القول: إن المسألة الأجرية في سورية اليوم هي من أشد المسائل تعقيداً، ولكنها في الوقت نفسه قابلة للحلّ، ولكن يجب قبل ذلك تحديد مواطن الأرباح المتعاظمة والتي تلوي ذراع الأجور وتفقدها قيمها الشرائية، فما المشكلة وما المطلوب؟
يرى د. جميل أنه إضافة إلى مشكلة نسبة الأرباح مقابل نسبة الأجور من الناتج الوطني فإن «المشكلة الإضافية المتعلقة بالأرباح هي أن الثروة في سورية متمركزة بالدرجة الأولى بقطاعات لا علاقة لها بالإنتاج المادي، مثل العقارات والاتصالات والمصارف.. حيث يراكم أصحاب الثروات الكبيرة أرباحهم على حساب جميع قطاعات الاقتصاد السوري الخاصة والعامة، وهذا يجعل من عملية إعادة تدوير هذه الثروات المتراكمة في القطاعات الريعية إلى مجال الإنتاج المادي، أمراً مستحيلاً ويعرقل عملية النمو الاقتصادي نفسها».
أما المطلوب اليوم حسبما يراه د.جميل فهو «إعادة النظر بالمسألة الأجرية بالذات جذرياً، ثم إعادة بنائها على ثلاثة مرتكزات؛ الأول هو الوصول إلى نقطة الصفر بين الحد الأدنى لمستوى المعيشة والحد الأدنى للأجور، والثاني هو ربط الأجور بمستوى ارتفاع الأسعار- أو التضخم إذا شئنا في حال كان التضخم يعبر بشكل حقيقي عن ارتفاع الأسعار»، فالحديث اليوم عن ربط الأجور بالتضخم يثير قلق الاقتصاديين حسبما يبين د.جميل «لأن مقارنة حسابات التضخم بمستويات ارتفاعات الأسعار التي تمت خلال السنوات الأربع الماضية تظهر أن التضخم أقل من ارتفاعات الأجور وهذا يعني حسب هذا المنطق أن ارتفاع الأجور كان أعلى من ارتفاع التضخم، ويمكن عند الوصول إلى تلك النتيجة أن يطالب البعض في الحكومة أصحاب الأجور بإرجاع ما أخذوه من زيادات على أجورهم إلى الخزينة، وهذا يسهل كثيراً إذا كانت حسابات التضخم غير صحيحة في سورية»، أما المرتكز الثالث الذي حدده د.جميل فهو «تأمين الزيادات من مصادر حقيقية إما من أصحاب الأرباح أو من النمو الحقيقي الناجم عن القطاعات الإنتاجية».
من «الشيّق» ذكره أن هامش الحوار مع د. جميل أوصل الحديث إلى علاقة «الذئب بالغنمات» التي يرى البعض في توازنها أفضل الحلول قائلين: «لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم»، ومما جاء على هامش الحوار: «لا يمكن إرضاء الذئب (الأرباح) والقطيع (الأجور) معاً، إذ لابد من زعل أحدهما في نهاية المطاف، وعلى الحكومة أن تختار اليوم أحد طرفي المعادلة للمحافظة على رضاه لأن الحصول على رضا الطرفين أمر مستحيل جداً وغير قابل للتحقيق».