إعادة الهيكلة.. كلام الليل وأفعال النهار!
عقدت لجنة رسم السياسات الاقتصادية في رئاسة مجلس الوزراء اجتماعاً بتاريخ 29/10/2017، وذلك تحت عنوان نقاش خطة عمل هيئة التخطيط والتعاون الدولي لإعادة هيكلة القطاع العام الاقتصادي وتحديثه، بما يسهم في بنائه على أسس قوية وزيادة مساهمته في عملية التنمية وخاصة في المرحلة المقبلة.
الكلام الإنشائي الجميل والعام أعلاه سرعان ما تم استشرافه على أرض الواقع، وكشف بعض من حقائقه على المستوى التنفيذي، وذلك على وقع الخبر المنتشر عبر وسائل الإعلام، صباح اليوم 30/10/2017، عن أن الشركة السورية للاتصالات، التي تمت إعادة هيكلتها منذ عدة أعوام فقط بناء على نفس المفردات الجميلة والحيثيات الإنشائية أعلاه، من الممكن أن تقوم بتسريح الآلاف من العاملين لديها خلال الفترة القريبة القادمة، وهي تقوم حالياً بتوقيع البعض من هؤلاء على استقالات مسبقة قبل التوقيع على العقود الجديدة المزمع إبرامها معهم استناداً للهيكلة (التحديثية)، وبما يتعارض مع مرسوم إحداثها بحيثياته، بما فيها من حقوق للعاملين من المفترض بأنها مصانة!.
للتذكير ففي عام 2012، وعند الحديث عن الهيكلية الجديدة المزمعة للسورية للاتصالات بوقتها، من مؤسسة عامة إلى شركة مساهمة مغفلة مملوكة بالكامل لصالح الخزينة العامة للدولة تعمل وفق أحكام قانون الشركات وقانون الاتصالات، شدد جميع المسؤولين بحينها على أن هذا التحول لا يعني بيعاً أو خصخصة أو تسريحاً للعمالة وإنما يهدف إلى تحقيق المرونة المطلوبة في أنظمة التعاقد والتشغيل واختصار الروتين وسرعة إنجاز المشاريع بعيداً عن التعقيدات الإدارية.
نموذج الاستقالة المسبقة، على الرغم من عدم قانونيته وما يحمله من إجحاف بحقوق العاملين، ليس مستغرباً التعامل به من قبل القطاع الخاص، وهو أمر شائع وأداة فاعلة بيد أرباب عمل هذا القطاع غايته سلب العامل جزء أساسي من حقه، كما يجعله عرضة للتسريح التعسفي دون المطالبة بأي حقوق في اللحظة التي يرتئيها رب العمل، هكذا..
أما أن يصار إلى اتباع هذا الأسلوب من القائمين على عمل شركة مملوكة للدولة، بغض النظر عن القانون التي تعمل وفقه، فهو أمر وافد جديد فيه الكثير من التجاوز على الخطوط الحمراء بما يخص حقوق العاملين ومستقبلهم أولاً، وبما يخص تعامل الدولة مع عامليها ثانياً، وهو على ذلك يعتبر خطوة غير مسبوقة وفيها الكثير من الجرأة والتحدي والتمادي.
لعل الشركة السورية للاتصالات، بمآل العاملين فيها ومعاناتهم الحالية وقلقهم على مستقبلهم كما ورد أعلاه، وبما عملت عليه خلال السنين الأخيرة على مستوى زيادة أسعار خدماتها ورسومها على المواطنين كأحد تجليات نماذج إعادة الهيكلة المسوّقة، تعتبر مثال فاقع على ماهية إعادة الهيكلة التي يتم العمل عليها وتسويقها للتعميم على كافة القطاعات الاقتصادية التابعة للدولة.
وبالعودة لاجتماع لجنة رسم السياسات الاقتصادية، والعبارات الجميلة المسبوكة تسويقاً لأهداف إعادة الهيكلة المطلوبة، فقد تم التأكيد خلال الاجتماع على ضرورة إيقاف النزيف المادي للمؤسسات العامة وإصلاح مكامن الخلل في أدائها، مع الاشارة إلى أنه تم منذ نحو 6 أشهر تشكيل لجنة مختصة لدراسة واقع المؤسسات ذات الطابع الاقتصادي ووضع رؤية استراتيجية لتطوير عملها وبأن الحكومة عازمة على إصلاح المؤسسات العامة مع الأخذ بعين الاعتبار الدعم الاجتماعي الذي تتحمله الدولة في هذا المجال!.
بعد كل ذلك يمكننا القول بأن السياسات الليبرالية المتعبة من الحكومة الحالية ومن الحكومات المتعاقبة سابقاً، وعلى الرغم من كل التغليف التجميلي بغاية التسويق لهذه السياسات، لا يمكن لها إلا أن تنتج مثل هذه النتائج السلبية، سواء على مستوى حقوق العاملين التي يتم هضمها تباعاً، أو على مستوى التراجع المطرد لدور الدولة عن مهامها، مع كل الانعكاسات السلبية لهذه وتلك على الواقع الاقتصادي الاجتماعي.
فهل ما زالت عبارة "أسمع كلامك أصدقك أشوف عمايلك أستعجب" فاعلة عند اسقاطها على الأداء الحكومي، أم أننا لم نعد نصدق كما لم نعد مستغربين من هذه السياسات ونتائجها؟!.
ولعل الحقيقة الوحيدة الساطعة أن السياسات هي التي باتت الضرورة تفرض إعادة هيكلتها، ليس من أجل حقوق العاملين ودور الدولة الاقتصادي الاجتماعي فقط، بل من أجل المصلحة الوطنية العليا.