ستريكو  ميقري ستريكو ميقري

البنية التحتية احتكار طبيعي للدولة

تطلق مستجدات الواقع أبواق التحذير من خطر الاتجاه النيوليبرالي في الاقتصاد السوري مراراً وتكراراً، لكن دون جدوى، فهذا النهج ما يزال العنوان اليومي للقرارات والتوجهات الحكومية..

إن سورية تعيش اليوم بمواجهة حرب جدية قد تشنها أمريكا وإسرائيل في منطقتنا هروباً من الأزمة العاصفة التي أصابتهما, وهذا يتطلب التمترس والتحضير لهذه المواجهة التي تتسم بأنها شاملة وحاسمة وقاسية ومتشابكة ومركبة، وتقتضي توطيد الوحدة الوطنية الداخلية من خلال  المعالجة المسؤولة والشجاعة للمشكلات الاقتصادية ـ الاجتماعية, ولكن بدلاً من مواجهة هذه المشكلات، وعلى رأسها  البطالة والفقر والتنمية غير المتوازنة والاقتصاد الريعي والفساد وتراجع الإنتاج الزراعي والصناعي وانخفاض مستوى التعليم والتضخم المتراكم والميزان التجاري الخاسر ونقص المياه وتزايد الطلب على الطاقة وذلك بزيادة المبالغ المرصدة للاستثمار في القطاعات الإنتاجية وليس الريعية الكفيلة بتحقيق النمو المطلوب والتنمية الحقيقية التي تعني تحسين الحالة المعاشية لجماهير الشعب وزيادة الأجور مقابل الأرباح... هاهو فريقنا الاقتصادي يتحفنا بتوجهاته القادمة والمتمثلة في فتح الباب واسعاً للقطاع الخاص لكي يستثمر في البنية التحتية ذات الطابع الريعي، ويتباهى بجمع 50 مليار دولار في قاعة واحدة لتحقيق هذا التوجه، ومع ذلك يحلم بمعدل نمو قد يصل إلى 8% عام 2015.

ولكن متى كان القطاع الخاص مساهماً في غنى البنية التحتية السورية؟ فباستثناء  مساهماته في مجال بناء بعض المستشفيات والمدارس والجامعات الخاصة وغير الشعبية، فإن الجزء الأعظم  من البنية التحتية في سورية بنتها الدولة حصراً.

إن دخول القطاع الخاص للاستثمار في البنى التحتية، أو حتى إقرار مبدأ التشاركية بين الخاص والعام ودون مواربة أو خداع، يعني  خصخصة البنية التحتية كما يقول د.عابد فضلية (إنَّ هذا النوع من الاستثمار هو فعلاً نوع من الخصخصة، على الرغم من أنَّ الجهات الحكومية تصرّح بأنَّ ذلك لا يعدُّ كذلك).

إن مردودية الاستثمار في البنية التحتية على المستثمرين، عادة ما تكون على المدى الطويل، ولأن نفس الرأسمال الخاص عادة ما يكون قصيراً وساعيا للربح السريع، فإنَّ الاستثمار في هذا المجال يعني بنية تحتية ذات خمسة نجوم، لن تخدم إلا القادرين على الدفع، وأكبر مثال على ذلك هو الأقساط  الباهظة  للجامعات الخاصة، وتجربة التاريخ برهنت أن الخصخصة الجزئية أو الكاملة للأعصاب الأساسية للبنية التحتية هي أمر خطير، ويماثل في قدرته التدميرية أسلحة الدمار الشامل، وهو أمر لم يجر حتى في البلدان التي عصفت بها موجة الخصخصة. وعلى سبيل المثال فإن سكك الحديد الروسية والمصرية هي حتى اليوم ملك للدولة، وتقوم هي نفسها باستثمارها، كما أن المرافئ الكبرى وخدماتها احتكار للدولة لا يسمح لأحد بالمساس به في كل الدول الإمبريالية، وهي تدخل ضمن ما يسمى بالاحتكارات الطبيعية التي يمنع معناً باتاً الاقتراب منها لأنها تمس أمن المجتمع والدولة ووحدة البلاد.

وإذا ما توفرت الإرادة السياسية فإن إيجاد الموارد في البلاد متوفرة.. إذ يكفي مئات المليارات التي تتسرب عبر التهرب الضريبي والفساد الكبير والهدر لتأمين موارد كبرى كافية لرفع مستوى معيشة الشعب وإصلاح القطاع العام والحفاظ على الإنتاج الصناعي والزراعي من التردي الجاري فيهما وتحسين البنية التحتية وتنميتها، وتأمين وتائر نمو عالية للاقتصاد الوطني كفيلة بحل كل المشكلات  المنتصبة أمام البلاد من فقر وبطالة وأزمات مختلفة تضغط على المواطن ليل نهار.

إن هذه السياسات الاقتصادية والاعتماد عليها، وصلت بنا إلى هذه النتائج الكارثية المتمثلة بزيادة الفقراء فقراً والأغنياء غنى، مع أن الوضع العالمي والإقليمي والمواجهة الجارية تتطلب تجاوز تلك السياسات الاقتصادية التي أثبتت عجزها وفشلها، والسير نحو صياغة سياسة اقتصادية اجتماعية تؤمن أعلى نمو ممكن وأعمق عدالة اجتماعية، وذلك غير ممكن دون الاعتماد على الذات وتعظيم نقاط القوة في الاقتصاد السوري كي يصبح إنتاجياً حقيقياً، قادراً على المنافسة، مما يتطلب دوراً فعالاً ذكياً للدولة.. وللبدء في ذلك يجب إزالة الآثار السلبية للسياسات الاقتصادية الليبرالية في كل المجالات التشريعية والاقتصادية والاجتماعية.