«انعزالية» الإصلاح التشريعي في سورية..
ما تزال معارك الإصلاح التشريعي مستمرة في سورية، وشهدت السنوات الماضية صدور عشرات القوانين والمراسيم الجديدة، التي تلمس الناس فيها الكثير من الدلالات والتوجهات لقلب الأوضاع الاقتصادية ومن ثم الاجتماعية في البلاد، وكان الاتجاه العام يسير نحو دفع الاقتصاد السوري للانفتاح على عوالم «القطاع الخاص والاستثمارات الكبرى والتشاركية»، ودفع المجتمع السوري إلى «فضاء العالم الحر».
لم ينج أي قانون أُقِر، أو مشروع قانون طُرِح، من سجالات حادة على كل المستويات في البلاد، من قاعة مجلس الشعب، إلى النقابات، إلى الصحافة، وحتى في الشارع بين المواطنين العاديين، وتطورت الكثير من هذه السجالات الى اتهامات متبادلة بين الاتجاهات المختلفة. وفي إطار هذا المشهد ظهرت ثلاث ظواهر أساسية خطيرة تحمل في طياتها دلالات بعيدة المدى، الأرجح أن أحداً من صناع هذه القوانين لم يتنبه لها.
الأولى، أن أغلب مشاريع القوانين التي أقرت، لم يأت تطبيقها بأية نتائج ملموسة على صعيد تحسين الواقع المجتمعي في البلاد (قوانين ومراسيم تشجيع الاستثمار نموذجاً)، وهذا يعني أن هذه القوانين لم تكن انعكاساً لحاجات المجتمع، ولم تُبنَ على دراسات عميقة للواقع التشريعي في سورية.
الظاهرة الثانية، تمثلت في أن بعض مشاريع القوانين وصلت حد استعداء بعض الشرائح الشعبية، واستفزازها من خلال المساس بمصالحها وقيمها بشكل مباشر (مشروعي قانون الأحوال الشخصية وقانون العمل نموذجاً)، وهذا يعني أن واضعي تلك القوانين، لم يأخذوا بعين الاعتبار طبيعة الفسيفساء السوري ونسيجه الاجتماعي.
أما الظاهرة الثالثة فتتمثل بغياب الحقوقيين الأكاديميين السوريين غياباً (شبه تام) عن نقاش هذه المشاريع وجدواها، وهذا مؤشر آخر على بعد هذه القوانين، وانعزال واضعيها عن المجتمع، فضلاً عن أنه دليل صارخ على الهوة الكبيرة بين كليات الحقوق السورية وميدان بحثها الفعلي (المجتمع)، وهو أمر له دلالته فيما يخص المشاريع الحكومية، وما طرحه بعض رموزها حول الاستثمار في العنصر البشري.
تحتاج الشعوب في لحظات الانعطاف والتغيرات الكبرى لتبديل بناها التشريعية بما يتوافق مع حاجاتها المتبدلة والمتطورة. إلا أن المعطيات السابقة تشير إلى أن ثمة من يمتلك رؤية خاصة لما يجب أن تكون عليه القوانين في البلاد، ويحاول إسقاط رؤيته تلك على المجتمع السوري من الأعلى. مع أن الأمر يجب أن يكون معكوساً، إذ يجب أن يبنى الإصلاح التشريعي على دراسات معمقة لحاجات المجتمع وتطلعاته، وعلى دراسات ميدانية وأكاديمية واسعة للقوانين المراد تغييرها أو تطويرها، ومن ثم طرح الصيغ الملائمة على السلطة التشريعية لإقرارها.
حتى اللحظة، لم يتمكن الفريق الحكومي السوري من إنجاز ما أعلنه حول تطوير الوضع الحقوقي في سورية، ولم نلحظ تغيرات بنيوية في التشريع السوري، وآليات تطبيقه، رغم أن النقاش حول هذا الأمر استهلك الآلاف من صفحات الصحف. وبصرف النظر عن التوجهات المعلنة، والمبطنة للقائمين على التعديلات التشريعية في سورية، وعن وجهة النظر السياسية الاقتصادية في توجهاتهم تلك؛ فإن المؤكد أن ما يقومون به ما يزال تحت مسمى «المشروع الفاشل»، وإن عليهم العودة لدراسة حاجات هذا المجتمع الذي تستهدف القوانين تنظيم حياته، والاتكاء عليها، وعندها فإن مشاريعهم لن تكون غير مجدية، ولن تكون فاقدة لحاضنتها الشعبية.