خصخصة النقل تجري بوتيرة سريعة.. النقل الخاص يغزو العاصمة.. واثق الخطوة يمشي ملكاً!!

يبدو أن طريق الخصخصة والاستثمار بات أوتستراداً واسعاً أمام المستثمرين الجدد، وها هو يُفرش له الورد والريحان، ليرضى ويمضي واثق الخطا في الخطوط الداخلية للنقل الداخلي، تارة تحت حجة التأهيل والتطوير، وتارة أخرى بحجة التشاركية مع القطاع الخاص، هذه الشماعة التي لا تكل أو تمل الإدارات في إطلاقها كلما (دق الكوز بالجرة)، فالشركة العامة للنقل الداخلي بدمشق التي أحدثت بالمرسوم رقم /930/ لعام 1962، والتي كانت تسمى وقتئذٍ المؤسسة العامة للنقل الداخلي بدمشق قبل أن يتغير اسمها بمرسوم آخر حمل الرقم /340/ لعام 1975، وبإشراف وزارة النقل، حددت لها ومنذ البداية مجموعة مهام هامة وضرورية في رسم سياسة وأهداف النقل الداخلي، وتحديد شروط استثمار وسائط النقل وأجورها وريعها، وأحكام الرقابة على استخدامها واستثمارها بحيث تؤمن الخدمة بالشكل الأفضل، ووضع جميع الخطط التفصيلية والبرامج التنفيذية التي تكفل تطوير الخدمات في النقل، ودراسة القضايا التي تواجه الشركة ووضع الحلول اللازمة لها، وإيجاد الكوادر الفنية وتأهيل السائقين والعناصر الميكانيكية الكفوءة من أجل تحسين خدمات النقل المنوط بها، بالإضافة إلى المتابعة الحثيثة في مراعاة رفع مستوى الأداء وتخفيض التكلفة ومنع الهدر والإسراف والضياع... لكن أين هي من كل ذلك، وهل التوصيفات النظرية تستطيع إخفاء العيوب القاتلة؟؟

ماذا تحقق من كل هذا؟

بعد صدور القانون رقم /10/ للاستثمار، ذهبت كل هذه المهام أدراج الرياح، وبدأ النخر في جسم هذه الشركة يزداد شيئاً فشيئاً، وتكالب المستثمرون عليها وكشروا عن أنيابهم بعد السماح لهم باستيراد هذه السيارات الصغيرة «السرافيس» والتي سميناها في أكثر من مناسبة «الجرذان البيضاء» أو «قابضة الأرواح».. بحجة تأمين خدمة أفضل وأسرع للمواطنين على اختلاف مشاربهم، وهكذا تنافس تجار السيارات فيما بينهم من يستورد أكثر، وبدأت حركة الموانئ معها في ازدياد وبدأت معها حركة الشاحنات الطويلة التي كانت تنقلها إلى المحافظات تزداد أيضاً، ورغم كل التحذيرات التي أطلقت بخصوصها وبنوعية الخدمة التي تقدمها هذه السرافيس في بلاد المنشأ، بقيت حركة الاستيراد كما هي، ولم تفعل الحكومة شيئاً، أو تحرك ساكناً في وضع حد لها. بالمقابل فإن المواطن كانت تغريه العروض الخاصة ومبالغ التقسيط والاستثمار، فيقبل عليها دون أن يدري ما سيحدث لاحقاً. وعلى الرغم من صدور قرار رئاسة مجلس الوزراء عام 2003، القاضي بإخراج الميكروباصات «السرافيس» من الخطوط الداخلية في المدن تدريجياً، وتحويلها لتعمل على خطوط أخرى داخل المدن وخارجها، بقيت الحالة كما هي عليه، وظل المستثمرون يستوردونها من كل حدب وصوب، لا بل طورها البعض منهم لتعمل على الغاز بدلاٍ من المازوت بعد ارتفاع سعره على أساس أنهم مهتمون كثيراً بالبيئة ويعملون ليل نهار ضد الذين يلوثون البيئة، لكن الباصات الكبرى للكبراء الجدد (طحشت)، وكانت البداية بخط دوما، ثم خط يرموك مزة اتوستراد، ليتم لاحقاً إخراج السرافيس من نحو /14/ خطاً في دمشق. 

(شو عدا ما بدا)؟

المشكلة أن الذين وافقوا على استيراد السرافيس في وقتٍ ما مضى، هم أنفسهم الذين يعارضون عملها الآن، وبالتالي الذين استثمروها واستوردوها هم أنفسهم الذين يستوردون الباصات الكبيرة للعمل بدلاً عنها، والمستفيد في كلتا الحالتين هم أصحاب رؤوس الأموال الطائلة الذين اغتنوا على حساب المواطن في العقود القليلة الماضية، فجعلوا حركة الاستيراد حكراً على تجار السيارات الذين لا يزيد عددهم عن أصابع اليد الواحدة، ونتج عنه فيما نتج احتكار مستثمر لأكثر من خط، وأحياناً /5/ خطوط. وما يجري الآن يطابق تماماً ما حدث سابقاً، إذ تم فتح الباب على مصراعيه أمام المستثمرين لشراء الباصات الكبيرة واستثمارها على الخطوط الداخلية في المدينة تحت عنوان (مبروظ) وكبير وهو أن كل ما يجري يتم تحت إشراف ومراقبة الشركة العامة للنقل الداخلي!!

لقد تم فتح هذا الباب تحت هذه التسمية بعد أن نال باصات النقل الداخلي وسائقيها وميكانيكييها ومستخدميها وإدارييها، كل أنواع النعوت من الجهات التي أصدرت قرارات بتوقيفها. 

أما من حل لأزمة الازدحام؟

والأسوأ من كل هذا أنه عندما فتحت الأبواب لاستيراد السرافيس الصغيرة ، كانت الحجة أن حجمها أصغر من الباصات، وستحل أزمة الازدحام المروري في دمشق وبعض المحافظات والمدن الكبرى، أما الحجة الحالية فهي فتح حارات خاصة طرقية لهذه الحافلات ضمن شوارع دمشق، وهذا الكلام جاء حرفياً على لسان وزير النقل يعرب بدر في 16/2/2009 عندما أعلن عن ذلك بوصول دفعة باصات الغاز إلى سورية التي تتسع ما بين /120 ـ 150/ راكباً، مؤكداً أنها ذات تقنيات أحدث، وأن المشروع قيد الإنجاز لتخفيف الضغط المروري وتأمين وصول السيارات بالوقت المحدد بدلاً من هدر الوقت.. وأخذ المسؤولون صوراً تذكارية لهم أمام المواطنين أثناء تسييرها ضمن شوارع دمشق، ثم عادوا إلى سيارات «الشبح» دون رجعة. وتم في الاجتماع نفسه الاتفاق على تكليف محافظة مدينة دمشق بفتح هذه الحارات الخاصة، بدءاً من السومرية وحتى كراج البولمان مروراً باوتوستراد المزة فساحة الأمويين وشارع بيروت والاتحاد والثورة وحلب وفارس الخوري، وصولاً إلى كراج البولمان، أما خط العودة فيكون على المسار نفسه مروراً بشارع مرشد خاطر، وبطول يصل إلى حدود /18/ كم، تتقاطعه محطات التوقف ذهاباً وإياباً بما يقارب /42/ محطة.

كل هذا يجري دون الحديث لا من قريب أو بعيد عن المترو الذي كان من المفترض أن ينجز قبل ثلاثين عاماً، والذي كان وما زال العنصر الأهم أو المنقذ في تخفيف أزمة المرور بالشوارع، وفي هذا السياق لابد من ذكر بعض ما قاله الخبراء الأجانب الذين استنجدنا بهم لوضع حلٍ لهذه الأزمة، ومن باب الطرفة أن أحد الخبراء قال: «لا يمكن إيجاد حل لأزمة المرور بدمشق وحلب إلا بتغيير المنطقتين «المدينتين» عن بكرة أبيهما».. فإذا كان هذا رأي خبير غريب جاء ليجد الحلول، فكيف بالعالم ببواطن الأمور كلها؟. 

أحلاهما مر

لن نتناول أياً من الخطتين بالانحياز، وسنقف على الحياد، ولن نشرح تفاصيل ما حدث عبر العقدين الماضيين من تخبطات، حين تم إخراج باصات شركة النقل الداخلي أوائل التسعينيات بعد أن أعلن عن الخسارات المستمرة للشركة قدرت بـ/600/ مليون، وجرى إيقافها كأمر حتمي لأنها لا تليق بكرامة المواطن!. ولكن لابد من القول إنه لو تم استثمار هذه الخطوط كاملة من الشركة العامة للنقل الداخلي لكان هناك حديثاً آخر مختلف عن كل ما قيل، رغم أن المسؤولين في الشركة صرحوا ولأكثر من مرة أن المحول للاستثمار لن يتجاوز /30%/ بينما الباقي سيكون مخدماً من باصات الشركة نفسها، وهنا لابد من طرح السؤال التالي: ألم تتحول جميع شركات القطاع العام إلى خاسرة ومتعثرة ومتوقفة ومن ثم إلى الاستثمار والخصخصة بعد دخول القطاع الخاص المنافسة بطريقة غير متكافئة بكل المقاييس؟ وعندما نقول أحلاهما مر، فهذا يعني أن على الشركة ألا تسمح لنفسها بقطع أرزاق عشرات الألوف كانوا يتعيشون من خطوطها، وهذا يعني اليوم بالضرورة حدوث مشكلات اقتصادية واجتماعية أكثر من المتوقع، فعلى خط واحد من هذه الخطوط وعلى سبيل المثال لا الحصر يدور /800/ سرفيس، يعمل عليه سائقون صباحاً ومساءً وليلاً، وإذا افترضنا أن كل شخص يعيل أسرة مؤلفة من /5/ خمسة أفراد، فهذا يعني أنه تم قطع أرزاق أكثر من ثمانية آلاف عائلة. 

شهادات حية

يقول محمد، وهو سائق: «لقد ورطونا بكل شيء.. في البداية رفعوا أسعار المحروقات أضعافاً مضاعفة، والآن يرموننا إلى أماكن قد لا تعطينا نصف ما كنا نحصل عليه سابقاً»، أما سعيد فقال: «المشكلة أنهم وضعوا كل الأخطاء التي ارتكبوها على رؤوسنا، فعندما يرجعون السبب في الأزمة المرورية إلى الأعداد الطائلة من هذه السرافيس، يتناسون تماماً هذا الكم الكبير من السيارات العامة من جميع الأنواع هم الذين صرحوا باستيرادها دون أية خطط، مما جعل المدينة كومة سيارات. ويضيف: ما ذنبنا إذا كنا نسترزق منها وتكفينا رغم صعوبة الحياة وزيادة المصاريف؟». سائق على خط آخر قال: «لو كانوا يعملون هذا من أجل القطاع العام والحفاظ على الاقتصاد الوطني، كنا قلنا: فيها وما فيها، لكنهم فعلوا كل هذا من أجل إرضاء بعض المستثمرين لهذه الباصات، وحتى الآن ما ظهر سوى ثلاثة أسماء بالإضافة إلى باصات المصري التي كانت تعمل سابقاً، وبصراحة كلها لأسماء كبيرة وغنية ويبدو أننا سنرمى بين الأرجل»!.

أحد المواطنين سألناه وهو في الباص الجديد عن رأيه، فقال: «المشكلة ليست في الباص أو السرفيس، بل المشكلة في مديري الذي لن يقبل تأخيري مهما قدمت له من أعذار، فالمشوار الذي كنا نصله بنصف ساعة أصبحنا بحاجة ساعة وأكثر لنقضيه، أي لابد من الخروج من المنزل قبل الوقت السابق الذي كنا نخرج فيه بنصف ساعة على الأقل، والمضحك ولمزيد من الإقناع قاموا بتجربة سخيفة، فحسبوا المدة الزمنية التي يحتاجها الباص من السومرية إلى القابون بسرعة /40/ كم في /30/ دقيقة دون توقف على المواقف. و/50/ دقيقة إذا توقف ذهاباً وإياباً».. فكيف انحسبت معهم هكذا، وفي أي وقت!؟؟

مواطنة تدخلت في النقاش وقالت: « الحكومة لا تحترم المواطن، وكل ما يصدر لا يأخذ برأي المواطن أبداً ليظل دائماً فأر تجارب وكبش فداء وأسير القرارات التي لا تحترمه أبداً». 

خلاصة القول

ختاماً، لابد من القول إن مصائر الناس ليست لعبة بيد أحد، وبالتالي يجب معاقبة من كانوا سبباً بكل هذا التخبط في معالجة مشكلة النقل، لا أن يُعاقب المواطن على حساب حفنة من المستثمرين لم يتركوا شيئاً ولم يستثمروا فيه.. فالمواطن لا ناقة له ولا جمل في كل ما يحدث، فهو لعبة الكبار في جمع وتكديس الأموال، وصراع الاستحواذ المستمر على كعكته المنهوبة..

والأسئلة التي لا بد من الإجابة عليها هي: أين الإستراتيجية الشاملة التي تتحدث الحكومة ليل نهار عنها، والتي تزعم أنها ستشمل كل المحافظات والمدن؟ وكيف ستحدد التعرفة بعد أن تمت تجزئة التعرفة على الميكروباصات (السرافيس)؟ ثم هل من المعقول ألا تتقاضى المؤسسة سوى /150/ ليرة سورية عن كل باص خاص يومياً؟ ألا يشير هذا لاحتمال تواطؤ بعض المسؤولين الكبار في لعبة خطيرة؟ وكيف لمدينة بحجم دمشق تحتاج إلى /2000/ باص، موجود منها الآن /450/ باصاً تابعاً للنقل الداخلي، و/150/ للمستثمرين أن يكفيها هذا العدد؟ حتى وإن وصل عدد باصات الاستثمار إلى /800/ باص كما يعلن رسمياً ستبقى المشكلة كبيرة ومستعصية.. 

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.