الألوان لا تحل الأزمات.. السيرة الذاتية لتخبط النقل الداخلي بدمشق.. بين العام والخاص

كما ضاع في الصيف اللبن عند أجدادنا العرب، قد يضيّع الصيف الأزمة المرورية في شوارعنا، فالصيف القائظ منع الناس من الخروج إلا لأمر هام، لذلك بإمكانك أن ترى باصات النقل في دمشق نصف ممتلئة على الواقف، رغم أنها كانت أكثر زحمة في أيام المونديال، فالفرجة المبهرة دفعت الشباب للذهاب إلى المقاهي، والامتحانات الجامعية العامة (غير المفتوح وأشقائه) قد انتهت، كل هذه الأسباب قللت من هول المشهد المروري الخانق.

الأزمة ستعود إلى الظهور الفج عندما يعود الطلبة إلى مدارسهم وجامعاتهم، ويعود الشتاء ليفرض مشاكله، ومسابحه، وأوحاله. 

الشوارع.. أزمة

أزمة النقل العام في بلدنا من أهم الأزمات وأعقدها، والسبب ببساطة يعود إلى أننا كمواطنين نحتاج دائماً إلى التنقل شئنا أم أبينا عبر الأسطول الذي يجتهد المعنيون بسيرنا باجتراح الحلول بتحديثه تارة، وبتنسيقه تارة أخرى.

ولكن قبل الغوص بشأن ما يتعرض له هذا الأسطول من تعديلات بين القطاعين الخاص والعام، بين الباص والسرفيس، في السعر وتجزئة السعر، في وقوده العادي القاتل، ووقوده الأخضر الصحي، قبل كل هذا وذاك، هناك مشكلة المكان الذي تسير عليه أقدام المطاط التي تتهادى أو تتقافز وهي تحملنا في الحفر مرة، وعلى المطبات البلاستيكية والإسفلتية مرة أخرى.

من باب الإنصاف يبدو العمل والاجتهاد - في دمشق – قائماص على حلحلة أزمة الشوارع، وإن كان بطيئاً، أو متعثراً في كثير من الأحيان ودون استراتيجية واضحة، خاصة في إنجاز الساحات توسعة واختصاراً، أو الأنفاق التي أخذ بعضها كثيراً من الوقت زاد الأزمة أكثر من حلها، وساحة العباسيين كانت مثالاً لبطء التنفيذ، وتعثر الدراسات، فأخذت من الوقت أكثر مما قد تأخذه مدينة بأكملها من دراسة وعمل.

شوارع المدينة تضيق على سياراتها المتراكمة، وقت الذروة لم يعد في دمشق يمثل ساعة انصراف الناس من عملها إلى بيوتها، صارت كل الأوقات ساعة لذروة الازدحام، ولم تخفف الحلول المؤقتة من الأزمة، على الأقل قد يقول قائل لكنها محاولة للحل، فهل حلت على سبيل المثال تحويلة بردى الزحمة المرعبة تحت جسر الرئيس باتجاه شارع الثورة؟

كما أن إزالة بعض الإشارات على أتوتستراد المزة وإطالة الالتفاف، لم تفعل شيئاً سوى أنها ركزت الزحمة عند إشارة (الإسكان)، عدا عن الزحمة في كراج السومرية، والضغط القادم إليه من دمشق، أو باتجاهها من الريف والمدن الجنوبية.

وعلى سيرة السومرية يبدو أن المحافظة اقتنعت أخيراً أن المواطن الذي يقطع الشارع من بين السيارات - في كراج يخدم خمس محافظات – يحتاج إلى جسر أو نفق يمر عليه أو منه، فها هي أخيراً بدأت بتنفيذ جسر مشاة يصل ما بين ضفتي الشارع.

أما منتظرو الانتهاء من نفق كفرسوسة الذي تعتبره محافظة دمشق من أهم مشاريعها ويؤمن السير السريع وباتجاهين في منطقة شرق – غرب المدينة، هؤلاء المنتظرون يتحملون وزر الالتفافات والطرق الفرعية ريثما توفي المحافظة وعدها بانتهاء العمل مع أواخر العام الحالي 2010. 

النقل الجماعي.. التحولات

بعد أن اعتقد أغلب السوريين في بداية التسعينيات أن أيام التعلق على باب باص الحكومة ولت إلى غير رجعة، وأن السرافيس التي كتب على بعضها (السيارة مكيفة) هي انتقال رائع باعتبارنا نستحقه، جاء ما يؤكد أن هذا الاعتقاد قد خاب، لأن هذه الوسيلة التي اعتمدها الكثيرون كمصدر رزق لهم لم تصمد طويلاً، والأدهى أنها لوثت المدينة حتى الاختناق، وصار لا بد من البحث عن بديل أو مساعد لها لحل المشكلة دون أن يتسبب الأمر بقطع تلك الأرزاق.

الحل كان في العودة إلى دفاترنا القديمة، مؤسسة النقل الداخلي التي وزعت بعض باصاتها على المؤسسات والشركات العامة، لديها الكثير منها فقط يحتاج إلى إصلاحات صغيرة ويصبح قادراً على العودة إلى الخدمة، وبالفعل عاد الباص الأخضر إلى شوارعنا يتراقص مع ركابه المتعلقين ببابه المفتوح دائماً على الشارع، وعاد السائق إلى دعواته للركاب المكتظين بداخله بالرجوع، والمفتش للقبض على المتسللين بالمجان.

هذه الفكرة قادت إلى فكرة أكثر تطوراً بالباصات المماثلة من حيث الحجم والسعة، الباص الصيني ظل سنوات ينتظر دوره في خدمتنا، ولكنه دخل شوارعنا بكراسيه البلاستيكية الضيقة حسب حجم المواطن الصيني، وتم دعم الخطوط الطويلة في الريف، ومن ثم داخل المدينة، ودخل المنافس الجديد ليستفز السرافيس، ويخفض سعرها، ويحمل جزءاً كبيراً من رزقها الذي هو نحن.  الفكرة بدورها لم تحل المشكلة، وفكر أصحاب الرأي والمال، وجاءت الحلول الأخرى على هيئة الشركات الخاصة بباصاتها الملونة وأسمائها المبهجة على أسماء الزهور الدمشقية.. إنما الفرق بسيط في أنها تنفث سماً أسود اللون.

الشركات الخاصة ألغت قطع البطاقة، وصار السائق يحمل بطاقات كما أيام زمان عندما كانت الباصات الكبيرة هي العاملة على خطوط المدينة والريف، حينها كان الجابي يمسك علبته الخشبية، جزء ليضع فيه (الفرنكات) وجزء للكروت الصغيرة، وزادت الأمر بأن كتبت التعليمات الإنسانية خلف ظهر السائق، ممنوع التدخين، النظافة حضارة، السائق والمفتش إخوتك فساعدهم، أفضلية الجلوس للنساء والعاجزين.. إلى آخر هذه السمفونية الإنسانية، لكنها أخذت أجراً أكثر، ولم تتجزأ تعرفتها الكاملة.

نقل بالألوان

لا تحمل باصات الشركات الخاصة أسماء جميلة فقط، لكنها ملونة بالأحمر والأزرق والرمادي، وهذا ما يجعلها مميزة شكلاً، لكنها تشبه الباص الأخضر بخدماتها، فالكراسي البلاستيكية التي لن تصمد طويلاً هي ذاتها، والألوان البراقة ستصبح معتادة، ومع السنوات ستتحول إلى ألوان مختلفة.. ووجه الشبه الأكبر أن المواطن ما زال معلقاً، والسائق هو السائق، والتدافع سيبقى، ولن يسير من موقفه دون أن يكدس الناس المحشورين بعضهم على بعض..

أضف إلى ذلك أنها ستفشل ما تسعى إليه المحافظة في خطوة التوسعة للشوارع، لأن وقوف باصين ملونين (وإن كان أحدهما رمادياً والآخر أحمر) سيسد الطريق.. والهواء.

علاوة على أننا يجب ألا نسى صدورنا ومدينتنا مما تنفثه هذه الملونة من سموم المازوت، وإلا ما نفع الاستنجاد بها، فلا هي حلت أزمة النقل، ولا خففت من موتنا مختنقين بريحها. 

المواطن يتحدث

المواطن باعتباره المعني بالأمر، كونه من يتأثر أولاً، وكون من يروجون الحلول يخطبون على وسائل الإعلام باسمه، فكل شيء لخدمة المواطن، وحل مشاكله، المواطن يقول:

أحمد. د: المشكلة ليست بعدد الباصات التي ستوضع، والحل ليس بالشركات الكثيرة، نريد شوارع أعرض، مواقف ثابتة، وقانوناً صارماً يمنع السائق أو الشركة من التعامل مع المواطن كزبون (دفيّع).

أبو ياس المبيض: هذه الحلول لينتفع منها أصحاب الاستثمارات، نحن جزء من الاستثمار،  هم لا يرون فينا سوى ما ندفع، أنا متأكد من أن السائق يرى المواطن حسب التعرفة، إما عشر ليرات، أو خمساً.

منير. ح: لا يوجد فرق بين الخاص والعام، كلهم أبناء البلد، المعاملة نفسها لم تتغير، هل جاؤوا مع الباص الصيني بسائق صيني، أغلب السائقين على هذه الباصات من سائقي السرافيس العاطلين عن العمل، أو ممن يبحثون عن راتب شهري، وبعض الإكراميات.

مواطنة: ما زلنا على حالنا، صحيح أن هناك بعض أولاد الحلال لا يرضون أن تقف امرأة وسط زحمة الرجال، لكننا نتعرض للدفع و(النعر)، وبعض النساء، والفتيات خصوصاً يتعرضن للتحرش.

محمد .ز: نفس الأخلاق، الخاص يجب أن يفرض على السائق أخلاقاً جديدة، يجب أن يعامل المواطن باحترام، كنا نتمنى أن تدرب هذه الشركات سائقيها على طريقة مخاطبة الناس بأدب، على اعتبار أنهم في أتعس الظروف والغايات زبائن يدفعون.

تشاركية في الأزمة.. أم عليها

هل استطاعت وزارة النقل مع الوحدات الإدارية التابعة لها أن تقدم حلولاً نهائية أو حقيقية لهذه الأزمة؟ أو على أقل تقدير، هل تمكنت من تخفيفها، وهي التي تشكو دائماً من الخسارات الكبرى التي يسببها هذا القطاع الحيوي الرابح في أي مكان عدا بلادنا وقطاعنا العام، والذي يجب أن يكون رابحاً، من منظوره العام الذي تقوده الوزارة، أو من منظور الحل الذي ارتأته ألا وهو التشاركية مع الخاص؟؟.

والمستثمرون في هذا القطاع هل لديهم نوايا حقيقية في حل الأزمة، أم أنهم يتعاملون معها من باب الاستثمار في الأزمات، وأن استمرار الأزمة وتعقدها يزيد الأرباح، ويبقي أدوات استثمارهم أكثر فعالية، وأهمية؟.

الجواب ليس يرسم المستثمرين الذين عرفنا أسماءهم فجأة، وليس برسم الناس المضطرين رغماً عن أنوفهم للقبول بكل الحلول المقدمة لهم، وإنما برسم الحكومة التي أصبح من الضروري أن تكون لديها استراتيجية حقيقية للتعاطي مع الأزمات.. وليس تعهيدها..

في الرؤية

من المؤكد أن الوزارة تريد أن تريح رأسها من مشكلة، فلديها جملة مشاكل أخرى تريد حلاً، فأزمة النقل ليس بالباصات وحدها، لديها أزمة النقل الجوي أيضاً، وهي تعود إلى طرح تحريره مرة أخرى بعد سلسلة الحلول (الترقيعية) التي لم تنجح، ولديها مشكلات النقل البحري وميلها المتزايد لخصخصة المزيد والمزيد من خدمات الموانئ، كما أنها في سياق حل مشكلة النقل الجماعي تفكر بمشروع المترو، المترو الذي قالت إنها ستنتهي منه في عام 2017، وإن الدراسة بين أيدي الفرنسيين تارة، وهناك عروض إيرانية أرخص تارة أخرى، وكذلك المونوريل هو أحد الحلول المقترحة، ولديها دراسات حوله.. الوزارة لديها إذاً ما يكفيها من المشكلات.. الله يعطيها العافية!.

من جهته فإن المواطن مثل الوزارة لديه ما يكفيه من مشكلات اقتصادية واجتماعية ونفسية، وطلباته يرى أنها بسيطة وهي من مسؤولية الحكومة، يريد موقفاً محترماً، سيارة تقله دون أن يدفعه أحد، قانوناً يحميه من الاستغلال.

من مصلحة دمشق ألا تموت بالكربون، وألا تتلون بالرمادي والأسود إلى الأبد، ألا تتلوث مياهها وسماؤها، فلون سماء دمشق لم يكن تاريخياً أسود أو مغبراً.. من حق دمشق علينا حكومة، ووزارة، ومواطنين أن ندفع عنها الريح السوداء التي تكاد أن تخنقها، من حقها أن نحبها لأن فيها سيحيا كل أبنائنا.. وجميعنا نريد أطفالاً دون سرطان وأمراض رئوية، ودون عقد نفسية.. نريد أطفالاً لا يلهثون خلف باص ولو كان بالألوان.