الاحتكار شريك في الحصار..

يتضح من إصرار جريدة «الوطن» على وضع نفسها كلسان حال لبعض القوى الاقتصادية، مستوى التشابك والوظيفية بين بعض الإعلام السوري، والخاص منه تحديداً مع قوى التنفذ الليبرالية التي طفت خلال العقد الماضي.

ويأتي في هذا السياق هجومها على التأميم «كلفظة هاربة من أسفار الاقتصاد القديم» والتبني التام «لمفاهيم التوجهات الاقتصادية العالمية الحديثة» الذي يأخذ شكل الدفاع عن شركات الاتصالات والهجوم على مقولة «التأميم» التي هي تعبير عن ضرورة وضحناها في مقالنا المنشور سابقاً في العدد رقم 590 بعنوان: رد على رد «الاتصالات» على «قاسيون» عبر «الوطن»

مفارقة الريع الاحتكاري في الأزمة

أكدنا بأن التاميم هو الصيغة المثلى والتي من الممكن أن تسبقها عدة خطوات « رفع الضرائب على الشركات، زيادة نسبة الدولة، تخفيض أسعار المكالمات وغيرها..» وهي قائمة على ضرورات تتعلق بشكل أساسي بظروف المرحلة الحالية التي تئن فيها موارد الدولة وتزداد مستحقاتها، بينما يدفع كبار المحتكرين جهاز الدولة بشكل مباشر أو غير مباشر إلى سياسة سحب الموارد من جيوب المواطنين.

وإذا ما كان التأميم لديه «القدرة على هز البنيان الاجتماعي والاقتصادي للدولة» بحسب المقال الوارد في جريدة «الوطن» فلا بد من التذكير بأن هز البنيان الاقتصادي الاجتماعي للدولة وإضعاف دورها هو مهمة وضعها الليبراليون الاقتصاديون وأصحاب اقتصاد السوق خلال الفترات الماضية ويضعها كل من يلتزم «بالتوجهات الاقتصادية العالمية» كمسلمات لا تقبل التعديل، والأسوأ أنه «يتلطى» وراء بناء الدولة، ودعم الاقتصاد ويريد أن يضع خلاصات تجارب الليبراليين المُرّة في سورية كنموذج يحتذى.

النموذج الاحتكاري لقطاع سيادي هام، الذي يعتبر النموذج الحتمي -بنسب متفاوتة- للقطاعات المخصخصة بالكامل وتحديداً في الدول النامية، هو حقيقة تثبتها تجربتنا في قطاع الخليوي، والتي تشهد عليها مؤشرات ودراسات عربية.

فبحسب تقرير لمجموعة المرشدين العرب بعنوان «مستوى الخصخصة في أسواق الاتصالات الخليوية العربية» خلال شهر تشرين الثاني من عام 2012، تأتي سورية بين الدول العربية الثلاث الأولى مع كل من فلسطين والكويت، باعتبارها الدول التي يستحوذ فيها القطاع الخاص على إيرادات الاتصالات«الخليوية» أي أعلى مستوى خصخصة للخليوي. وتتبوأ شركات الاتصالات السورية المراكز الأخيرة من حيث التنافسية ومراكز متقدمة من حيث ارتفاع الأسعار، وبالتالي مستوى عالياً من الاحتكار.

حول الأرقام

أخذ الجدل الصحفي الدائر البحث حول الأرقام الدقيقة لموارد وأرباح شركات الاتصالات، فإذا ما كان الفارق في الرقم «الدقيق» هو حوالي 2 مليار أي بين 16 مليار و 14 مليار أرباح العام الأخير، فلا خلاف..

الخلاف يجب أن يكون حول البحث عن موارد الدولة وحصتها والنسبة الحقيقية فالنمو التدريجي لشركات الخليوي لم يترافق مع «دقة» في النمو التدريجي لحصة الدولة كما ينص العقد

فنسبة مؤسسة الاتصالات التي من المفترض أن تبلغ 50 % وفقاً للعقد بعد عام 2007 لم تصل إلى هذا الحد حتى اليوم.

بناء على دراستنا لأرقام إيرادات الشركتين وحصة الدولة منها خلال سبع سنوات (2005-2011) والمأخوذة من أرقام الإفصاح المالي للشركتين (سيرتيل - MTN) المنشورة في الموقع الالكتروني الرسمي «سوق دمشق للأوراق المالية» تبين أن: حصة مؤسسة الاتصالات من إيرادات شركة «سيرياتل» في عام 2009 لم تتجاوز نسبتها %46.9، كما أن حصة المؤسسة من إيرادات شركتي الخليوي كانت بحدود %47 في عام 2010، ونحو %47.5 في عام 2011 وهذا الفارق في النسبة ليس بالقليل، لأن متوسط إيرادات الشركتين بحسب الأرقام المعلنة في السنوات المدروسة تصل إلى 77.5 مليار ليرة، أي أن كل 1 % فرق في النسبة سيعني بالمحصلة النهائية نحو 775 مليون ليرة سنوياً، فكيف الحال إذا ما كان الفارق في النسبة بحدود 3 – %5؟!

لذلك موارد كبيرة لقطاع الاتصالات عالي الاحتكار وتتجاوز حدود «14 مليار» في عام الأزمة 2012 هي مفارقة كبيرة. والدعوة للتأميم هي دعوة لتخفيف الريع في هذا القطاع الذي يُحصّل من جيوب المواطنين، وجعل نفقات المواطنين على الاتصالات قريبة إلى التكلفة مع هامش ربح اعتيادي وغير احتكاري. أو الدعوة إلى تحويل هذه الموارد للدولة التي تعاني من تراجع كبير في الموارد يهدد باستهداف أكبر للدعم مع ما يحمله ذلك من نتائج كارثية في الظرف الراهن.

«المنحرفون» مع التوجهات الاقتصادات العالمية

ليست تجربة الخليوي الاحتكارية هي التجربة الوحيدة بل التجارب كثيرة، وكل تجربة تنهي صلاحية «العفن الاقتصادي الفكري» الذي يرميه الاحتكار العالمي وراءه ليبتكر «مسوغات أفضل» بينما نجد من يتلقفه من «منظرينا» ليتكلموا بلسان «الحداثة» الذي يفترض القدرة على التنافسية وتطوير الجودة وخفض الأسعار في ظل وجود الاحتكار..

خاض «المتخصصون الاقتصاديون» معارك كثيرة في الدفاع سابقاً عن كل ما حملته قوى الاحتكار والليبرالية في سورية في جعبتها من مشاريع وخطط، أثبت الواقع فشلها والآثار السلبية التي سببتها، والتي هدفت ووصلت نسبياً إلى هز حقيقي لدور الدولة وبالتالي البنيان الاقتصادي الاجتماعي من الشراكة الأوروبية، إلى اتفاقية التجارة الحرة مع تركيا، إلى تحرير التجارة بالكامل، إلى اقتصاد السوق الاجتماعي ورفع الدعم وتخفيف الإنفاق الحكومي إلى بيع أراضي الدولة، واستملاك أراضي المواطنين بالمقابل، وصولاً إلى الاستثمار الأجنبي كمورد رئيسي...

تهتز المهنية عندما يعالج كل المختصون الأمور بناء على رؤية ضيقة ومرحلية، ويضطرون لاحقاً للتراجع ومدح الموجة القادمة، كما اضطر أغلب الذين دافعوا عن جميع المفاهيم الليبرالية السابقة بقوة في لحظة ما على التراجع أو الصمت، بعد أن أثبت الواقع أنها أضرت بدور الدولة وبمستوى المعيشة وبالصناعة الوطنية وبالنمو والتنمية الاقتصادية.

اليوم تتشكل اللحظة المناسبة لإيقاف الهدر الاحتكاري وتخفيفه، وسيقف في وجه هذه العملية أصحاب الاحتكارات (الشرعية وغير الشرعية) وكل الفئات والشرائح المرتبطة بهم، كل هؤلاء يساهمون بشكل واضح في حصار السوريين والتضييق على لقمة عيشهم وعلى موارد دولتهم ويكمل مفاعيل العقوبات الاقتصادية والحصار الخانق.