الاحتلال يُجرِم والمقاومةُ تُعاقِب: تعدُّد الجبهات ووحدة الساحات
لطالما خاف الاحتلال الصهيوني من كابوس انفتاح عدة جبهات ضدّه في آن معاً؛ وها قد حصلت تطوّرات مهمّة جديدة بهذا الاتجاه مؤخراً عبر عملية إطلاق عشرات الصواريخ من جنوب لبنان، هي الأولى من نوعها منذ 2006 (بغض النظر عن عددها الدقيق أو مَن أطلقها)، لتضاف بالتزامن إلى صواريخ غزة المحاصَرة، وتصاعد عمليات فدائية نوعية يعجز عن إيقافها، ثمّ 6 صواريخ أطلقت من الأراضي السورية صوب الجولان السوري المحتل، مع استمرار أزمة حكم الاحتلال وانقسامه المؤسساتي سياسياً وعسكرياً وسط تحوّلات كبرى في خريطة الصراعات والتسويات إقليمياً وعالمياً تعاكس تماماً السياسات الأمريكية-الصهيونية في «فرّق تسد» و«الفوضى الخلاقة» التي تقترب من نهايتها ولا سيّما مع زلزالَين استراتيجيَّين: الشراكة الصينية-الروسية والاتفاق الإيراني-السعودي.
تصعيدٌ جديد في مسار الصراع مع الاحتلال شهدته الجمعة الثالثة من رمضان/نيسان الجاري، وكان الاحتلال كالعادة هو البادئ عبر التمادي في جرائمه، ليصل إلى استفزازات كبيرة مؤخراً، تمثلت في داخل فلسطين المحتلة خصوصاً بالاقتحام الوحشي للأقصى واعتقال مئات المعتكفين فيه والاعتداء عليهم وإيقاع إصابات. كذلك صعّد الكيان سلسلة ضرباته العدوانية على سورية مؤخراً. وهي تطوّرات لا يمكن فصلها أيضاً عن تصاعد الضربات التي تتلقاها قوات الاحتلال الأمريكي المتبقية في سورية والتي تواصل اعتداءاتها ورعايتها للإرهاب الداعشي والصهيوني في المنطقة.
على أثر تراكم هذه الاستفزازات، وبالاستفادة من لحظة مؤاتية حيث الانقسام الداخلي للكيان المأزوم، وتسويات تاريخية إقليمية يتصدّرها الاتفاق السعودي-الإيراني وما سيثمر عنه من حلول واعدةٍ لأزماتٍ اعتاش عليها الأمريكي-الصهيوني عقوداً - تأتي عملية قصف عشرات من صواريخ المقاومة من الجبهة الشمالية (من جنوب لبنان) على مستوطنة «المطلة» شمال فلسطين المحتلة، قد تكون وراءها قوى مقاومة فلسطينية في لبنان، بينما ركز الاحتلال على التصريح ضدّ «الدولة اللبنانية» عقب إطلاقها ولم يستطع أن يخفي موقفه المرتبك في أن يبحث عن كيفية الردّ عليها دون أن يجرّ على نفسه معركة واسعة قد تنفتح من الجبهة الشمالية، مما يؤكّد مستوى الضعف الذي وصل إليه حتى بات أشدّ حذراً وقلقاً، وهو الذي ما زال يتكتم أصلاً على ملابسات اختراقٍ أمني خطير تعرّض له مؤخراً بعملية «مجدو» في 13 آذار الماضي، ونسبت لمقاوم قيل إنه تسلل من جنوب لبنان، وزرع عبوة ناسفة كبيرة نسبياً انفجرت قرب مفرق مجدو في الداخل المحتل شمالي فلسطين وأصابت سيارة على الجانب الآخر من الشارع.
وبالتوازي مع صواريخ الجبهة الشمالية، أطلقت المقاومة الفلسطينية جنوباً من غزة المحاصرة يومي الخميس والجمعة (6 و7 نيسان الجاري) نحو 40 صاروخاً من قطاع غزة باتجاه مستوطنات الغلاف، وتداولت أنباء بأنّ معظمها من طراز 107 (سوفييتية مطوّرة فلسطينياً) مشيرة إلى أنّ استخدام صواريخ بمديات أبعد مرتبط بتطور الميدان وتصاعد العدوان.
الجدير بالملاحظة أنّ الاحتلال حتى في «ردوده» على صواريخ المقاومة من غزة يبدو أنه كان حذراً أيضاً؛ حيث لفتت تحليلات فلسطينية إلى قلة أهمية المواقع التي قصفها جنوب ووسط قطاع غزة في هذا الردّ، والتي لم تخلّف إصابات بشرية. وبالمثل قيل بأنّ مدفعية الاحتلال الثقيلة عندما «ردّت» على صواريخ الجبهة الشمالية من جنوب لبنان، قد ضربت «مواقع نائية».
ونقل موقع أكسيوس الأمريكي عن اثنين من المسؤولين العسكريين في كيان الاحتلال بأنّ الضربات «الإسرائيلية» ليلة الخميس (6 نيسان) في غزة ولبنان قد ركّزت على «أهداف لحركة حماس» بحسب قوله، مضيفاً بأنّ هذا يأتي «في محاولة لتجنّب صراع أوسع مع حزب الله».
وفي الاجتماعات التي عقدتها حكومة نتنياهو مع مسؤولي الكيان العسكريين والأمنيين ضمن «الكابينيت»، للتباحث في كيفية التعامل مع «وابل الصواريخ التي أطلقت من لبنان» الخميس، خلص وزراء الاحتلال إلى أنّ «إسرائيل ليس لديها أيّ مصلحة في الانجرار إلى حرب في لبنان من شأنها المخاطرة بالتحوُّل إلى صراع إقليمي».
وأعادت الصحيفة الأمريكية التذكير بالحقيقة التي باتت معترفاً بها داخل وخارج الكيان، ألا وهي أنّ الأزمة الداخلية حول ملف التعديلات القضائية قد زعزعت كلاً من اقتصاد الاحتلال وجيشه وموقفه الدولي.
اعترافات «تآكل الردع»
رغم أنّ موقع «واللا» الإلكتروني «الإسرائيلي» نقل الجمعة (7 نيسان)، عن مسؤول أمني أنّ الأزمة الأخيرة التي مر بها الكيان جرّاء خطة الإصلاح القضائي وما تبعها من تداعيات «لم تقلّل من قوة ردع الجيش الإسرائيلي» اعترف مسؤول أمني «إسرائيلي» آخر بالمقابل وفي اليوم نفسه بعكس ذلك تماماً؛ قائلاً إنّ إطلاق الصواريخ من قطاع غزة ولبنان باتجاه الأراضي المحتلة عام 1948، يُثبت أنّ «الردع الإسرائيلي قد تآكل».
وفي وقت لاحق من اليوم نفسه علّق عضو الكنيست ووزير الأمن السابق أفيغدور ليبرمان بأنّ «الرد الإسرائيلي كان نكتة مضحكة، والردع مقابل نصر الله تآكل كلّياً».
وتكرّر مصطلح تآكل الردع في تقارير إعلام الاحتلال مجدداً بعد الصواريخ الستة من سورية صوب الجولان فجر الأحد 9 نيسان، في تقارير وسائل إعلام الاحتلال، مثل القناة 14 التي جرى فيها وصف ردود جيش الاحتلال «بالضعيفة».
عمليتان نوعيتان: 4 قتلى للاحتلال بيوم واحد
قُتلت ثلاث «إسرائيليات» وأصيب اثنان، صباح الجمعة 7 نيسان 2023، في عملية إطلاق نار استهدفت مركبتهن قرب مستوطنة «حمرا» في غور الأردن في الضفة الغربية المحتلة. وتمكن المنفذ من الانسحاب من المكان وانتهى اليوم نفسه ولم يعثر الاحتلال على المنفّذ.
وقبيل العاشرة من مساء اليوم نفسه وقعت عملية فدائية مزدوجة بتل أبيب عبر إطلاق نار ودهس، أسفرت عن استشهاد المنفذ ومقتل «سائح إيطالي» وإصابة 8 أشخاص، مع وجود إصابة منهم على الأقل بحالة حرجة، فيما أفادت تقارير بأن العملية نُفِّذت في مكانين على الأقل، وتبين أخيرا أن المنفذ هو فلسطيني من كفر قاسم من الداخل المحتل (أراضي 48)، بعد تضارب مؤقت بروايات أخرى للاحتلال منها الاعتقاد بأنه فلسطيني من الضفة انتحل هويةً من كفر قاسم، بالنتيجة اعتبرت تعليقات في أوساط الاحتلال انتماء المنفّذ لعرب 48 «مستوى جديداً وخطيراً في العمليات»، لتعلن إذاعة جيش الاحتلال في وقت لاحق بأن المنفّذ من الضفة الغربية لكنه استخدم سيّارة وهويّة لفلسطينيّ من كفر قاسم.
كذلك وقعت عملية إطلاق نار ثانية مساء اليوم نفسه استهدفت مركبة للمستوطنين في شارع 443 غرب رام الله.
وفي أعقاب عملية «تل أبيب» المزدوجة سارع رئيس وزراء الاحتلال نتنياهو إلى إصدار قرار باستدعاء كافة وحدات الاحتياط في قوات ما يسمى «حرس الحدود» واستدعاء المزيد من قوات الاحتياط في جيش الاحتلال. ومع حديث سابق لحكومة الاحتلال عن «بنك أهداف» بغزة ولبنان، ربما تحمل الأيام القادمة موجةً جديدة من الاعتداءات والتصعيد الصهيوني قد تضاف لاعتداءاته المتكررة على سورية، ولكن حتى في سورية انضمت بين ليلة وضحاها 9 نيسان 2023 تغيراتٌ نوعية للمشهد بعد فاتحة الصواريخ الستة على جبهة الجولان فجر الأحد التاسع من نيسان، ما يطرح سؤالاً جدياً هذه المرة عن إمكانية تثبيت ردع عسكري مباشر كان غائباً، أحد آثاره الفورية مثلاً أن الاحتلال رغم «ردّه» بغارتين على دمشق ومواقع في درعا، لكنه لم يكن مرتاحاً كما في السابق حيث أمر هذه المرة بفتح الملاجئ في مستوطنات جنوب الجولان المحتل عقب إطلاق الدفعة الثانية من 3 صواريخ أيضاً، فهل تعد الأيام القادمة بمعادلة أنه كلما ضرَب في سورية يُضرَب من سورية؟
ظهرت بعض التحليلات لتقول إنّ نتنياهو كان بحاجة للتصعيد من أجل رص صفوف الاحتلال حول حكومته ضدّ «العدو المشترك». وحتى لو كان هذا دافعاً حقيقياً لدى نتنياهو، فإنّ الرياح تجري بما لا تشتهي سفنه؛ فعقب عملية الأغوار الجمعة خرج مستوطنون ليتظاهروا هناك ضدّ حكومته بسبب تعريض أمنهم للخطر، فلا شيء أشدّ إيلاماً للاحتلال من الخسائر البشرية بشكلٍ خاص.
وإذا حدّثنا أرقاماً سابقة كان ذكرها «مركز مُعطى» الفلسطيني نهار الخميس 7 نيسان، حول الخسائر البشرية للاحتلال بسبب عمليات المقاومة منذ بداية العام 2023، نجد (بعد إضافة خسائره حتى نهاية يوم 8 نيسان 2023) بأن الحصيلة وصلت إلى 23 قتيلاً و142 جريحاً.
وهكذا يعيش الاحتلال الصهيوني تراجعاً تاريخياً في مدى قدرته على ممارسة دوره الوظيفي، وصل لدرجة التهديد الوجودي لبقائه ووحدته ككيان عدوانيّ توسّعي. مع ذلك، لا يستطيع حتى الآن سوى محاولة المضي عكس التاريخ بدوره الاستعماري المستنفَد الذي ينتمي لميزان قوى سابق عفا عليه الزمن، مما يرتد عليه مزيداً من الضعف ويشكّل فرصاً سانحة لمزيد من ضربات المقاومة التي تتجه لمزيد من التوسع والتنوّع والإبداع، بما في ذلك من عدّة جبهات وساحات كما حدث خلال الأيام الثلاثة الماضية. والصفعات التي يتلقاها الاحتلال ينال منها نصيباً أيضاً ذلك المسار التطبيعيّ، الذي يتجلّى بؤسه وخُسرانه أكثر فأكثر حتى للمنخرطين فيه وفيه مؤتمرات التنسيق الأمني (ومنها العقبة وشرم الشيخ)، حيث تتبدّد الأوهام بإمكانية التعويل على أيّ حِبر يراق على أوراق مشتركة مع هذا العدو، أو على شراء «تهدئة» معه، بدلاً من معاقبته على جرائمه واعتداءاته المتكررة، ومواصلة النضال والمقاومة الشاملة سبيلاً وحيداً لانتزاع الحقوق الكاملة والتحرير للشعب الفلسطيني والسوري واللبناني وجميع شعوب المنطقة التي عانت منه قرابة قرن من الزمان.