«أوبك+» … خطوات سياسية بامتياز
اتخذت دول مجموعة «أوبك+» قرارات متزامنة لخفض إنتاجها من النفط، وبالرغم من وَصف الخطوة بأنها غير متوقعة، يستطيع أيُّ مراقب لسلوك المجموعة في الأشهر الماضية القول بأنّ القرار المذكور ينسجم مع سلسلة من الخطوات والقرارات السابقة، وأنّ أجندات منتجي النفط أصبحت تعبّر بوضوح عن مصالحهم ولا تخضع لضغوط أطراف أخرى كواشنطن.
أعلنت كلٌّ من السعودية، والإمارات، والجزائر، وكازخستان، والبرازيل، والكويت، والعراق، وسلطنة عمان خفض إنتاجهم النفطي بدءاً من شهر أيار القادم، وذلك بعد قرار روسيا في وقتٍ سابق خفض إنتاجها. وتقول التقديرات إنّ إعلان وزارات النفط في تلك البلدان سيخفّض العرض بمقدار 1.66 مليون برميل يومياً، فيما تقول تقديراتٌ أخرى بأنّ بعض هذه الدول لم تكنْ قد بلغت سقفَ الإنتاج المتَّفَق عليه أصلاً ما يعني انخفاض العرض بما يعادل 1.2 مليون برميل يومياً.
«التخفيضات» وما قبلها
يشكّل هذا الخفض في الحالتين خطوةً مؤثرة في الأسواق، ولا يمكن تجاهل آثاره، وخصوصاً أنّ القرار يفترض أنْ يسري حتى نهاية السنة الحالية، ويتوقع الخبراء أنّ أسعار النفط يمكن أن ترتفع إلى حدود 120 دولاراً للبرميل ولن تخفَّض ضمن إحداثيات كهذه إلى ما دون 100 دولار للبرميل. هذا القرار وبالرغم من أنه ينسجم مع مصالح المنتجين الذين يبرِّرون خطواتهم بوصفها استجابة طبيعية لوضع الأسواق العالمية وخطوة أساسية لمنع المضاربين من التلاعب بالأسعار، إلا أن القرار يثير غضب الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى، التي كانت تطالب بإجراءات معاكسة. والسبب وراء ذلك بات معروفاً وجرى تداوله على نطاق واسع. كانت الولايات المتحدة ضغطت على العديد من الدول وتحديداً في الغرب لوقف استيراد موارد الطاقة الروسية الرخيصة، وفرضت سقوفَ أسعار على هذه الخامات، واتخذت إجراءات أخرى أدّت في مجملها لارتفاع الأسعار ومعدَّلات التضخُّم، ما دفعها للبحث عن مخارج، ولم ترَ واشنطن إلا دفع الدول المنتجة للنفط لزيادة العرض في السوق العالمي أملاً في خفض الأسعار، لكن هذه الخطوة لا تخدم مصالح هؤلاء المنتجين الذين استطاعوا بسبب تراجع وزن الولايات المتحدة وتراجع قدراتها على الضغط والتحكُّم في التجارة العالمية من اتخاذ إجراءات مخالفة للإرادة الأمريكية.
إجراءات اقتصادية أم أكثر؟!
الحديث عن إجراءات «أوبك+» بوصفها اقتصادية-تكنيكية فقط يجانِبُ الدقة، وتحديداً إذا ما أخذنا مواعيد هذه الخطوات وآثارها على الأسواق، أو الدول الأخرى. بالرغم من أنّ خطوات من هذا النمط تضمن المصالح الاقتصادية لمنتجي الخامات إلا أن أهدافها السياسية حاضرة في خلفية قرارات كهذه، فما يجري يرقى ليكون تعبيراً عن مصالح سياسية مشتركة بعيدة المدى تتّفق عليها دول المجموعة، ولم يعد خفيّاً أنَّ إحدى النتائج المطلوبة هي فرض ضغط أكبر على الولايات المتحدة واقتصادها، فالدول التي تأثرت مصالحها من سياسات واشنطن أصبحت قادرة على توجيه ضربات في المقابل. ارتفاع أسعار الطاقة أدّى دوراً مباشراً في رفع معدَّلات التضخُّم في الولايات المتحدة، وشكّلَ تحدّياً حقيقياً لاقتصادها، وأربكَ الإدارة الحالية التي تحمّلت المسؤولية أمام المواطنين، ما دفعها لضخِّ أجزاء حيوية من الاحتياطي الاستراتيجي في البلاد، فانخفض إثر ذلك إلى معدلات قياسية، حتى إنّ التقديرات الأخيرة تقول إنّ استمرار الولايات المتحدة في ضخ كميات في الأسواق للتحكم بالسعر سيؤدي إلى نفاد الاحتياطي الاستراتيجي الأمريكي في خلال 7 أشهر. والمثير للانتباه أنّ واشنطن التي انتظرت انخفاض الأسعار لترميم النقص الهائل في مخازنها، وأجّلت صفقات متكرّرة مع السعودية لهذا الغرض، وجدت أنّ تحذيرات السابقة لوزير الطاقة السعودي كانت جدّية، فكان عبد العزيز بن سلمان قال في هذا السياق إنّ: «أناساً يستنفدون مخزوناتهم (من النفط الخام) المخصَّصة للطوارئ واستخدموها كأداة للتلاعب بالأسواق، في حين أنّ الصواب هو وجودها لمواجهة أيّ نقص في الإمدادات، والكل له خياره. من واجبي أن أوضح للعالم أنّ خسارة مخزونات الطوارئ قد يصبح مؤلماً خلال الأشهر المقبلة». لم تتأخّر السعودية كثيراً قبل أنْ تنفّذ «تهديدها» وجاء إعلان التخفيض الجديد بمثابة صفعة لواشنطن، التي سارع مسؤولوها للهجوم على القرار متّهمِين منتجي النفط «بتهديد استقرار الأسواق العالمية» دون تقديم أدلة موضوعية على التهديد المزعوم، ودون الأخذ بعين الاعتبار الآثار الاقتصادية والسياسية المدمِّرة التي نتجت عن رفع معدَّلات الفائدة التي أقرّها الفدرالي الأمريكي خلال المدّة الماضية، التي تُعَدُّ أحد أبرز عوامل عدم الاستقرار في الدول النامية، وأحد المسببات الأساسية لإفلاسات كبيرة تضرّ بمليارات البشر.
إجراءات «أوبك+» هذه لن تبقى دون ردٍّ أمريكي، فإلى جانب تأثيراتها السلبية على الاقتصاد الأمريكي، تعتبر تجسيداً ملموساً لكسر التبادل اللامتكافئ، وتفرض تسعيراً جديداً للخامات يلبّي مصالح منتجيها، الذين يتّجهون إلى درجات استقلالية أكبر في اتخاذ قراراتهم، قد يكون أخطرها بالنسبة للولايات المتحدة هو الاستغناء عن الدولار في تسعير الخامات وما سيتبعه من تراجع متسارع في الهيمنة الأمريكية.