ثلاثة حبال على عنق الاحتلال

ثلاثة حبال على عنق الاحتلال

يواصل الاحتلال الصهيوني تصعيده وجرائمه، التي زادت بظلّ حكومة نتنياهو وبن غبير، حيث شهد الأسبوع الماضي بشكل خاص أحداثاً متسارعة ومواجهات واشتباكات وعمليات مقاومة في عدة مناطق ولا سيما بالقدس والضفة. وفيما يواصل المتطرّفون الصهاينة وقادتهم الأوهام بأنّ قمع الشعب المقاوم سيجدي نفعاً، ينعكس تصعيدهم على الكيان تعميقاً للانقسام لدرجة التحذير العلني من «اغتيالات سياسية»، وسلسلة من مؤشرات النفور العالمي من «إسرائيل» (إذا استثنينا اتجاه التطبيع السائر بعكس التاريخ)، وتأتيهم أجوبة الشعب حجارةً وعملياتٍ بالسكاكين والرصاص والعصيان والإضراب، وتنفيذاً طبيعياً لعدالة «القاتل يُقتَل»، حتى أنّ الردّ بالمقاومة يأتي من «كلّ ليمونة» وكلّ طفل، كما أكّد مثلاً منفّذ عملية حاجز شعفاط، ذي الثلاثة عشر ربيعاً، عندما قال ببساطة: «رأيتُ مقاطع فيديو لجنود يضربوننا، فأخذت سكيناً من المنزل ووصلت إلى الحاجز بهدف طعن جنود». وهكذا يزداد الشدّ على عنق «إسرائيل» بشعبٌ يقاوِم، وانقسام داخلي يتعمّق، ونفور عالمي يتوسع.

تطورات ميدانية وداخلية

كانت إحدى أبرز الأحداث خلال الأسبوع الماضي التي ساهمت بمزيد من تفجير الأوضاع، مصادقة كنيست الاحتلال، الأربعاء 15 شباط، بشكل نهائي على قانون سحب الإقامة من الأسرى الفلسطينيين بذريعة الحصول على مساعدات مالية من السلطة الفلسطينية.

ويمنح القانون، الذي أيّده حوالي 79% من أعضاء الكنيست، لوزير داخلية الاحتلال تفويضاً بسحب المواطنة أو الإقامة من أي أسير فلسطيني يسكن الداخل الفلسطيني المحتل عام 48 إذا كان قد «حصل على مخصصات مالية من السلطة الفلسطينية»، ويمكن أن يقوم بترحيله إلى الضفة الغربية أو قطاع غزة.

التحذيرات من عواقب هذا الإجراء وغيره، لم تقتصر على الجهات الفلسطينية، بل وعمقت من الانقسام والخلافات بين أجنحة الاحتلال نفسه أيضاً، نظراً لمخاوفه وخاصة ضمن شقه العسكري والأمني الذي هو أكثر دراية وإدراكاً للخطر وحتى عرضةً للاستهداف بالعمليات الفدائية ميدانياً من سياسيّي أحزاب ما يسمى «الصهيونية الدينية» وقادتهم مثل إيتمار بن غبير.

التنكيل الصهيوني بأهالي «شعفاط»

في اليوم نفسه (15 شباط) حدث استفزاز صهيوني كبير في مخيم شعفاط بالقدس المحتلة، مما استدعى دعوة نشطاء من أبناء المخيم للإضراب من أجل مواجهة الإجراءات التنكيلية التي يقوم بها الاحتلال وجهاز شرطته. فعلى حاجز المخيم فرض الاحتلال إجراءات إذلال وتنكيل متعمّد بالفلسطينيين بلا تمييز بين طفل وكبير ولا صبي أو فتاة، فاعتدت قوات الاحتلال على طلاب وعمال صباح ذلك اليوم ومنعت طلاب المخيم من التوجه لمدارسهم بالقوة واعتدت بالضرب حتى على الأطفال والبنات، وعرقلت خروج العمال لأماكن عملهم وفرضت إجراءات تفتيش مذلّة تشمل الإجبار على خلع الملابس والإهانة والاعتداء بالضرب والشتم وتصرفات عنيفة.

التنكيل بالمحرّرين والأسرى وأهاليهم

التصعيد الصهيوني جرى أيضاً ضدّ الحركة الأسيرة وبيئتها الاجتماعية المباشرة، داخل وخارج السجون، مما دفع بشكل طبيعي لمقاومة من الأسرى معلنين «العصيان» الجماعي ضد إدارة السجون، فلقد شنّت حكومة الاحتلال، حرباً غير مسبوقة ضد الأسرى المحررين في القدس المحتلة وعائلاتهم، وحجزت الملايين من أموالهم بذريعة تلقيهم مخصصات من السلطة الفلسطينية. وطالت الهجمة 243 أسيراً فلسطينياً، من بينهم نحو 168 من القدس المحتلة. وتضمنت عقوبات وحجز على الممتلكات، على خلفية قرار وزير حرب الاحتلال «يوآف غالانت» فرض عقوبات على عدد من الأسرى الفلسطينيين وعائلاتهم، في أعقاب العملية التي نفذها الشهيد المقدسي حسين قراقع، الجمعة الماضية، وأدت إلى مقتل ثلاثة مستوطنين، وإصابة آخرين بجراح. وقوات الاحتلال صادرت حليا من الذهب لعائلات عدد من الأسرى.

ومرر الكنيست قرار سحب الجنسية، وشدّدت إدارة سجون الاحتلال إجراءاتها القمعية والاستفزازية للتضييق على الأسرى، وبدأت من معتقل «نفحة» بإجراءات مثل وضع أقفال على الحمامات التي يستخدمها الأسرى للاستحمام في الأقسام الجديدة والتي يقبع فيها 360 أسيراً، وامتدت الحملة لباقي سجون الاحتلال، وعلى سبيل المثال رفضت إدارة سجن رامون تقديم علاج الأنسولين للأسرى المرضى بالسكري عقاباً لهم على رفضهم الخروج إلى عيادة السجن مقيّدي الأيدي.

انقسام ومخاوف داخلية في الاحتلال من عواقب جرائمه

عكست كثير من منابر الاحتلال الإعلامية خوفاً متزايداً من الجناية التي تجلبها على نفسها «براقش»، إذا صح لنا القول، فصحيفة يديعوت أحرونوت مثلاً عبّرت عن أنّ «ما يجري اليوم من تدهور كبير بالأمن القومي وشعورٍ للمستوطنين بالقدس بفقدان الأمن مع إجراءات بن غفير التي لن تجلب إلا مزيداً من العمليات واستمرار التصعيد بالضفة وإطلاق الصواريخ من غزة، إنما يؤكد تآكل الردع».

وقالت قناة «كان» الرسمية في الاحتلال، بأنّ اجتماعات عقدها مسؤولو الأذرع الأمنية مع رئيس وزراء الكيان، بنيامين نتنياهو مؤخراً، شارك فيها رئيس أركان الاحتلال، وقائد الشرطة العام، ووزير الحرب ومسؤولون آخرون. وقد أجمع القادة الأمنيون على ضرورة وقف الحملة الأمنية التي بدأها وزير الأمن القومي «إيتمار بن جبير» قبل أيام في القدس المحتلة. وأضافت القناة بأنهم جميعاً طلبوا من «نتنياهو» الضغط لإيقاف الحملة خشية اشتعال الأوضاع بالقدس. وطلب نتنياهو من مستشاره العسكري التحدث مع «بن غبير» وإبلاغه بضرورة إيقاف حملته الأمنية، ولكن لم يقرّر نتنياهو بنفسه إيقافها ولم يتحدث عن ذلك شخصياً مع بن غبير، بحسب القناة. واتصل رئيس جهاز الأمن الشاباك بـ«بن غبير» ليحذره من أن خطواته في القدس ستُشعل تصعيداً واسعاً في هذا الوقت الحساس.

وتتكرر احتجاجات الشوارع ضد حكومة نتنياهو منذ أسابيع، ضد قانون الإصلاح القضائي الذي تنوي حكومة نتنياهو تمريره، وأحد دوافع الاحتجاج القوية بالمناسبة هي مصالح «رأسمالية» أكثر منها ما يزعم من دوافع «ديمقراطية» أو «شعبية» أو «فصل بين السلطات" وما إلى ذلك، فالقانون المزمع يمس بقانون «الملكية» ويعزز قلق المستثمرين من البقاء في السوق «الإسرائيلية». وبالفعل انعكس تصعيد الاحتلال لجرائمه زعزعة اقتصادية لقطاع المال والمصارف «الإسرائيلي» نفسه الذي يستشعر مخاطر الانقسام السياسي والتخبط الداخلي، واعترف مسؤولون في وزارة مالية الاحتلال وأصحاب مصارف بتسارع وتيرة تحويل ودائع من «إسرائيل» إلى الخارج وارتفاع المخاطر في السوق الاستثمارية وتراجع الأسهم.

ويتطور الانقسام داخل مؤسسات الحكم «الإسرائيلية» بين قيادات الشرطة والجيش من جهة وبن غبير وحزبه من جهة ثانية، إذ يخافون من انفجار الأوضاع في وجههم من جراء التصعيد الشديد ضد الفلسطينيين وعملية «السور الواقي2» في القدس المحتلة، وخاصة بعد عملية الشهيد حسين قراقع في القدس المحتلة، التي أدت لمقتل 3 مستوطنين وإصابة آخرين. ومن محطات تصاعد الانقسام مؤخراً، ما أعلنه المفتش العام لشرطة الاحتلال، كوبي شبتاي، السبت 18 شباط، بأنه رفض ضغط بن غبير عليه للاستقالة، ومطالبة وزير جيش الاحتلال السابق، بيني غانتس، لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بأن يقيل بن غبير.

ووصل الأمر لحد إطلاق رئيس شرطة الاحتلال، في 19 شباط، تحذيرات علنية من اغتيالات سياسية داخل «إسرائيل» لشدة الخلافات التي تعصف بها، مذكّراً بأنّ الكيان سبق أن شهد اغتيال رئيس وزرائه إسحق رابين.

رياح دولية معاكسة مقابل محاولات لإنقاذ «الربيبة»

لاحظت «هآرتس» في مقال لها، الجمعة 17 شباط بأنّ «إسرائيل» بحكومتها الحالية غارقة في أزمات سياسية حادّة، وبحسب تعبيرها فإنّ «التعاطف العالمي معها في انخفاض»، وفي اليوم التالي، 18 شباط، وقعت حادثة مهمة في سلسلة النفور المتصاعد عالمياً من «إسرائيل»، حيث تعرّض وفدها لطرد مُهين من قمة الاتحاد الإفريقي بعد أن حاول التسلل لحضورها بلا دعوة، وكان للجزائر وجنوب إفريقيا دور أساسي بعملية الطرد هذه، مما له دلالته؛ فكلا البلدين مؤثران كبيران في إفريقيا وصديقان يتزايد تقاربهما مع روسيا والصين أيْ مع القوتين الكُبريين في العالَم الجديد متعدد الأقطاب والذي يطرح شعار أنْ يكون «أكثر عدالة»، فمن الطبيعي أنْ يتم اتخاذ إجراءات ضدّ إحدى أقذر أدوات ظلم العالَم أحادي القطب الآفل، وأطول استعمار مباشر مستمر منذ أواسط القرن العشرين.

وكانت شهدت الأيام الماضية زيارة ثلاثة مسؤولين أمريكيين إلى المنطقة والكيان (مستشار الأمن القومي جيك سوليفان، ومدير المخابرات المركزية وليم بيرنز، ووزير الخارجية أنتوني بلنكين) في محاولة لتخفيف التصعيد، ليس حباً بسلام حقيقي، بل خشية على ربيبتهم من حماقاتها من جهة، ومن جهة ثانية لمزيد من الضغط على السلطة الفلسطينية للتراجع عن موقفها بخصوص «التوقف عن التنسيق الأمني» مع الاحتلال، الذي أعلنه رئيسها محمود عباس عقب مجزرة جنين مؤخراً، علماً بأن موقف سلطة أوسلو هذا بقي كلامياً ولم يترجم إلى أفعال حقيقية، كما بيّنت عدة أحداث، منها مثلاً مواصلة السلطة اعتقالاتها لمقاومين ومطارَدين فلسطينيين (على سبيل المثال لا الحصر: اعتقل جهاز الأمن الوقائي مؤخراً المطاردَين محمد الدبيك ونايف أبو شمط من نابلس وصادر مركبتهما وأسلحتهما). وكانت الفكرة الأمريكية أنه في مقابل تعزيز التنسيق الأمني أو ربما عدم خفض مستواه على الأقل، تؤجّل حكومة نتنياهو أو تجمّد بعضاً من خططها لتوسيع الاستيطان. ولكن حكومة الاحتلال الائتلافية مضت في شرعنة 9 بؤر استيطانية جديدة، وسط توقعات باتخاذ إجراءات أكثر تطرفاً في ضم مناطق «ج» وتوسيع عمليات الهدم. وخرج بيان مشترك (15 شباط) لوزراء خارجية أمريكا والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، قالوا فيه بأنهم «منزعجون للغاية من إعلان الحكومة (الإسرائيلية) توسيع المستوطنات، ونعارض بشدة الإجراءات أحادية الجانب التي لن تؤدي إلا إلى تفاقم التوترات بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وتقويض الجهود المبذولة لتحقيق حل الدولتين».

فالقضية الفلسطينية تمرّ بمرحلة غنية بالتطورات المتسارعة والمهمة، سواء على المستوى الميداني والداخلي، أو على المستوى الدوليـ بما في ذلك الظاهرة الصحّية القابلة لمزيد من التطور، المتعلقة بالنفور العالمي المتزايد من الكيان الصهيوني، وتلقيه صفعات في المحافل الدولية، كما حدث بأمثلة عديدة، منها طرد الوفد «الإسرائيلي» الذي تسلل بلا دعوة إلى مؤتمر الاتحاد الإفريقي، وتصاعد حملات المقاطعة كما في تعليق بلدية برشلونة لعلاقاتها معه، وحتى عندما حاول الكيان عبثاً تجميل وجهه الإجرامي القبيح، مستغلاً كارثة الزلزال، خرج على العكس من ذلك مفضوحاً بسرقة آثار في تركيا وقصف أبرياء في سورية، فلقد «غلب الطّبع التطبع».