دبّابات الناتو تزحف فوق خلافاته صوب تصعيد أكبر مع روسيا
عقد الناتو اجتماعاً لما يسمى «مجموعة الاتصال الدفاعية لأوكرانيا» بقيادة واشنطن في قاعدة «رامشتيان» الأمريكية بألمانيا في العشرين من الشهر الجاري، برز أثناءه وبعده خلافٌ بين وزراء الحرب في برلين وواشنطن بشأن إرسال دبّابات «ليوبارد2» الألمانية للاشتراك بالقتال ضد القوات الروسية في أوكرانيا. وأدت الضغوط الأمريكية لموافقة ألمانيا على الزجّ بدباباتها هذه في المعركة إلى جانب «كوكتيل» من الدبابات والأسلحة الحديثة الأمريكية والبريطانية والفرنسية وغيرها، والتي يحتاج كلّ منها لوجستيات مختلفة ومعقّدة، لتظلّ النتيجة مزيداً من التصعيد والدمار والخسائر، التي قد تُرجِئ، إلى حين، تثبيتَ هزيمة الناتو في أوكرانيا، ليس فقط على وقع التقدّم الروسي عسكرياً، بل وارتباطاً بساحات المعارك اقتصادية بين معسكر الدولار ومعسكر العالَم ما بعد الدولار. توريط برلين وأوروبا بتصعيدات انتحارية مع روسيا يثبت هنا أيضاً، ومن جديد، بأنّ الوظيفة الوحيدة المتبقية لواشنطن هي زرع العراقيل والألغام بطريق العالَم الجديد الوليد.
أحدث إحصائية للدفاع الروسية عمّا دمّرته قواتها من دبابات ومدرّعات في أوكرانيا خلال 11 شهراً حتى 24–1–2023 هي: 7614 دبابة ومدرّعة (بمعدّل وسطي 692 في الشهر).
طلب وزير الدفاع الأوكراني من اجتماع الناتو في «رامشتاين» 300 دبابة، في حين يقدّر إجمالي دبّابات «ليوبارد2» الموجودة حالياً لدى 12 بلداً أوروبياً بـ 2000 قالت آخر الأنباء أنه تمت الموافقة على تقديم 100 منها لأوكرانيا.
شهدت الأسابيع القليلة الماضية تقدماً ملحوظاً وسريعاً للقوات الروسية في دونيتسك، وإحكامها الطوق على المناطق المحيطة بمدينة أرتيموفسك (باخموت) الاستراتيجية تمهيداً لطرد القوات الأوكرانية منها، كما تحرز تقدماً في زاباروجيه وغيرها... ولا شكّ بأنّ التطورات العسكرية المتسارعة، مع تزايد المؤشرات على انهيارات وخسائر كبيرة في القوات الأوكرانية في الأسلحة والجنود، لدرجة اضطرار كييف على ما يبدو، وبحسب مقاطع مصوّرة وأنباء متداولة، إلى توسيع وتشديد قسوة حملات السوق والتعبئة لما تبقى من الشباب والرجال للقتال عنوةً – كل هذا شكل ضغطاً على قرارات حلف الناتو وقيادته الأمريكية، لدرجة إصدار عدة إشارات صريحة من مستويات أمريكية، عسكرية وسياسية واستخبارية، تعترف بأنّ الوضع «صعب جداً... نظراً لامتداد القتال على مساحة شاسعة من الأراضي من خاركوف إلى خيرسون» وتعيد إدخال كلمات «انتهاء الحرب بالتفاوض» وأنه «لا يمكن طرد القوات الروسية من أوكرانيا خلال هذا العام»، بحسب تعابير رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة الجنرال مارك ميلي خلال المؤتمر الصحفي المشترك مع وزير الحرب الأمريكي لويد أوستن في 20 كانون الثاني في ختام اجتماع الناتو في «رامشتاين».
وحتى مدير الاستخبارات الأمريكية، وليم بيرنز، عندما زار أوكرانيا سرّاً قبل نحو أسبوع من اجتماع الناتو، وبحسب ما تسرب عبر صحيفة واشنطن بوست، فإنّه أبلغ كييف بصعوبة مساعدتها «في مرحلة ما»، واضعاً كييف بصورة المدة التي يمكن أن تتوقع خلالها استمرار المساعدة الأمريكية خصوصاً بعد استيلاء الجمهوريين على مجلس النواب وانخفاض الحماس للمساعدات لدى أوساط من الناخبين الأمريكيين. وذلك رغم الحديث عن أنّ كييف خرجت من الاجتماع مع بيرنز «بانطباع بأن دعم الإدارة الأمريكية لكييف لا يزال قوياً وأن مبلغ 45 مليار دولار من التمويل الطارئ لأوكرانيا الذي أقره الكونجرس في ديسمبر سيستمر على الأقل حتى تموز أو آب».
يأتي هذا بالتزامن مع اشتداد الأزمة الاقتصادية للولايات المتحدة الأمريكية، داخلياً وخارجياً؛ حيث حذّرت وزارة خزانتها من مخاطر احتمال تخلّفها عن سداد ديونها لأول مرة في تاريخها، في حال أثر الانقسام السياسي الداخلي على إقرار رفعٍ سقف الدين مجدّداً إلى مستوى فلكيّ آخر فوق 31.4 ترليون دولار الحالية. أمّا عالمياً، فتتابع القوى الصاعدة العاملة على بناء عالَم جديد «متعدد الأقطاب» ومتحرر من هيمنة الدولار، خوض جولات هذه المعركة التي تثمر تعزيزاً للعلاقات الروسية والصينية مع بقية آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، اقتصادياً وعسكرياً أيضاً، وبناء منظومات «ردع» ضد القصف والدمار الذي أحدثه، وما يزال، السلاح المالي للقطب الواحد (الدولار)، متمثّلةً بمزيد من التسويات التجارية بالعملات المحلية، وتوحيد العملة لتكتلات إقليمية (البرازيل-الأرجنتين مثالاً)، ومشاريع توسيع بريكس والعمل على عملة موحدة، مما يبشر بالانتقال من الردع إلى الهجوم الفعال.
من «نورد ستريم»2 إلى «ليوبارد2»
امتلأ الفضاء الإعلامي خلال الأيام الماضية بالتحليلات والفرضيات حول أسباب وأهداف واشنطن من الضغط للزج بالدبابات الألمانية «ليوبارد2» تحديداً، في المعركة بأوكرانيا، وأسباب التردّد الألماني بالقيام بذلك.
بالمعنى العسكري، تعتبر روسيا تزويد أوكرانيا بدبابات حديثة تصعيداً بالطبع، كما أكد ذلك مثلاً، سيرغي شيشكوف، العقيد السابق في قيادة أركان الجيش الروسي، في مقابلة تلفزيونية حديثة (23 كانون الثاني) عندما أكد أنّ بولونيا تحوي أكبر عدد من هذه الدبابات الألمانية أكثر مما لدى ألمانيا نفسها، وبالتالي «عندما تقول بولندا إنها تريد نقل مئات الدبابات، فإنّ هذا يشكل خطراً بالنسبة لروسيا، والقيادة العسكرية الروسية تحسب ذلك وتستعد له».
يبدو أنّ دافع واشنطن الأساسي بعيد المدى وراء ضغطها لنشر الدبابات الألمانية، يتعلق برغبتها بتوريط برلين خصوصاً ومعها الحلفاء الأوروبيين عموماً، بمستوى أعلى من التصعيد والعدوانية ضدّ موسكو، على أمل خدمة الهدف الاستراتيجي بإلحاق أكبر تخريب وتدمير استباقي لجسور عودة محتملة لعلاقات طبيعية (اقتصادياً وسياسياً) بين ألمانيا (وأوروبا الغربية) وروسيا، في المستقبل بعد أن تضع الحرب في أوكرانيا أوزارها.
وفي هذا الإطار يمكن فهم هواجس برلين عندما ساقت أحد تبريرات تملصّها من الضغط الأمريكي بهذا الشأن، بقولها إنها لا تريد مشهداً لزحف الدبابات الألمانية في أوكرانيا اليوم بحيث يذكّر بزحف الدبابات النازية أثناء الحرب العالمية الثانية. والحقيقة أنّ التشبيه محقّ ومشحون بالرموز والدلالات: فإضافة لكون قلق برلين من تكرار المشهد بحد ذاته يعتبر اعترافاً ضمنياً بأداء ألمانيا اليوم دوراً مشابهاً جزئياً لدورها النازي آنذاك، فإنه فضلاً عن ذلك يذكّر بجرح عميق في ذاكرة السلطات الرأسمالية الألمانية (فالقوات السوفييتية دمّرت 80% من دبّابات هتلر)، كما أنه يذكّرها بسلوك واشنطن التاريخي الغادر، آنذاك كما اليوم، عندما دفعت وخططت لضرب ألمانيا (ومعها أوروبا) بروسيا أملاً بالتخلص من القوّتين معاً والاستفراد بنهب آسيا وأوروبا والعالَم. وبالفعل فإنّ سلوك واشنطن طوال حربها الحالية ضد روسيا، وحتى أثناء التحضير السابق لها، يشهد على استراتيجية مماثلة: من توسيع الناتو شرقاً والاستفزاز المتدرّج لروسيا، إلى منع ألمانيا من تفعيل خط غاز نورد ستريم2، ثم تفجير الخطين1 و2 لقطع الطاقة عن أوروبا وتدمير صناعتها وتركيعها، وبالتالي تعطيل مشروع التكامل الأوراسي الوثيق الصلة أيضاً بمشروع الحزام والطريق الصيني.
تسويق «أبرامز» ومصلحة مجمع الدولار الصناعي-العسكري
إضافة لما سبق، هناك أيضاً مصلحة للمجمع الصناعي-العسكري الأمريكي بتحريك جزء من دبّابات ليوبارد2 الألمانية من عدة دول أوروبية والبلطيق وزجّها في القتال ضد روسيا، وحتى لأعداد محسوبة أيضاً من دبابات أبرامز، ليس فقط لأسباب عسكرية مباشرة (لا تخلو أيضاً من هدف اختبارها ضد الأسلحة الروسية)، بل وكذلك لخلق طلبٍ يحرّك صفقات تسليح جديدة لتعويض هذه الدول ببيعها الدبابات الأمريكية، وخاصةً «أبرامز»، كما أن واشنطن تهدف بذلك إلى أن تشدّ بقوة أكبر وثاق هؤلاء الأتباع لنفوذها الاقتصادي-السياسي، وهي تخفي نيتها تسليحها بأبرامز عوضاً عن ليوبارد2، حتى أنّ إشارة عابرة إلى ذلك جاءت على لسان ديفيد بترايوس، الجنرال المتقاعد والمدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA، في 20 من الشهر الجاري على تلفزيون CNN.
وهناك سوابق حلّت فيها الدبابات الأمريكية مكان الألمانية، كما في تزويد السعودية بأبرامز بدلاً من ليوبارد2، بعدما رفضت ألمانيا تزويد هذه الأخير للسعودية بذريعة حقوق الإنسان وحرب اليمن (علماً بأنّ ألمانيا لم يهتز لها جفن عندما زوّدت «إسرائيل»، مثلاً، بأسلحة بقيمة 2.6 مليار يورو على مدى 16 عاماً من حكم ميركل).
في 24 من كانون الثاني الجاري، كشفت صحيفة «وول ستريت جورنال» بأنّ «إدارة بايدن تتجه لإرسال عدد كبير من دبابات أبرامز إم-1 إلى أوكرانيا، وقد يجري الإعلان عن تسليمها خلال الأسبوع الحالي»، وأشارت لاحتمال أن يكون هذا جزءاً من تفاهم دبلوماسي بين واشنطن وبرلين.
الصحيفة تتحدث عن «عدد كبير» ولكن ديفيد بترايوس قبل أربعة أيام توقّع عدداً رمزياً يماثل العدد الذي تعهّدت به بريطانيا من دبابتها «تشالنجر2»، حيث قال: «إذا كان إرسال نحو 14 دبابة أبرامز إلى أوكرانيا من شأنه أن يتيح للألمان تقديم دباباتهم ليوبارد2 والموافقة على تزويد دبابتهم هذه الموجودة لدى دول أخرى كبولندا ودول البلطيق... فإنّ الأمر يستحق القيام به».
وعلى أية حال، إذا قامت واشنطن في النهاية بإرسال «عدد كبير» من دبابات أبرامز إلى أوكرانيا، فإنّ هذا سيكون من المفارقات الساخرة في هذه الحرب، نظراً لأنّ عدداً من المسؤولين الأمريكيين تذرّعوا سابقاً بأسباب تقنية-عسكرية ولوجستية لتبرير الامتناع الأولي عن إرسال هذه الدبابات لأوكرانيا. مثلاً، قالت السكرتيرة الصحفية للبنتاغون صابرينا سينغ: «الصيانة والكلفة العالية التي تتطلبها دبابة أبرامز، تجعل تزويد الأوكرانين بها في هذه اللحظة أمراً غير معقول». كذلك قال كولين كاهل، من سكرتاريا السياسة الدفاعية لأمريكا: «لا أعتقد بأننا وصلنا إلى ذلك حتى الآن، فدبابة أبرامز هي قطعة من المعدّات شديدة التعقيد. إنها باهظة الثمن. إنها صعبة في التمرّن عليها. ولديها محرّك نفّاث. أعتقد بأنها تستهلك ثلاثة غالونات من الوقود النفّاث لكل ميل واحد. إنها ليست المنظومة الأسهل للصيانة».
إنّ مأزق الرأسمالية وهو يدفعها لاستهلاك «رئتها الحديدية» حتّى تصدأ، يحمل أيضاً فرصة تاريخية لاختناقها غرقاً في مستنقعات حروبها بالذات، إذا عرفت القوى المقاومة للإمبريالية كيف توحد جهودها في هذه اللحظة التاريخية انتقالاً للهجوم على الجبهات كافة: الاقتصادية-السياسية والعسكرية والثقافية وغيرها.