الكيان يخوض «أهم معاركه» في أحلك الساعات!

الكيان يخوض «أهم معاركه» في أحلك الساعات!

في الوقت الذي ينشغل فيه بعض السياسيين والمنابر الإعلامية في مقارنات سطحيّة بين «برامج قوى اليمين واليسار» في الكيان الصهيوني محاولين بذلك تفسير الانقسام السياسي الحاد هناك، ينشغل آخرون بتقديم تفسيرات أخرى كالقول بأنّ ما يجري هو معركة «للدفاع عن ديمقراطية مهددة» متجاهلين ظروف نشأة وتطور الكيان.

تجري في الكيان مؤخراً مجموعة من المعارك السياسية التي تصاعدت بشكلٍ ملحوظ بعد تشكيل الحكومة الحالية برئاسة بنيامين نتنياهو، الذي تحالف مع مجموعة من الأحزاب شديدة التطرف ذات خلفيات دينية متعصبة. واستطاع من خلال هذا التحالف ضمان أغلبية مقاعد الكنيست، ثم وصل بصعوبة مع هذه القوى إلى توافقات بهدف توزيع الحقائب الوزارية، وتثبيت وزن كل طرف في هذه الحكومة، ما جعل من هذا التوافق الهشّ الشرط الأساسي والضروري لبقاء هذه الحكومة.

المحكمة العليا أداة في الصراع

يمكننا تحديد الخطوط العريضة التي أدت للانفجار السياسي الأخير، وهي قيام الحكومة والكنيست بتحضير جملة من القوانين لتحدد من خلالها صلاحيات المحكمة العليا التي تمثل أعلى سلطة قضائية، والتي من المفترض نظرياً أن تمارس دوراً رقابياً على أداء الحكومة والكنيست، أي أن نتنياهو يسعى وبشكلٍ واضح لسحب كل الأدوات الممكنة من يد خصومه الذين بدأوا بالفعل في تحريك المحكمة العليا بهدف إعاقة عمل الحكومة.

حدّة الانقسام السياسي الكبير الذي عانى منه الكيان منذ سنوات لم تنخفض بل تشتد أكثر فأكثر، والمناورة التي حاول نتنياهو من خلالها رصَّ صفوف بعض القوى السياسية التي لعبت دوراً هامشياً في تاريخ الكيان السياسي، بدت بالنسبة له حلاً ممكناً للقفز فوق التوازنات الصعبة، وهو ما دفع الخصوم لتفعيل كل الأدوات الممكنة لإعاقة هذا التوجه بما فيها ورقة القضاء. ففي الوقت الذي يُنظر فيه إلى دور المحكمة العليا بوصفه دوراً محايداً، يبدو جليّاً أنها أداة سياسية يجري استخدامها، وكانت آخر قراراتها هي عدم أهلية حليف نتنياهو في الحكومة، أرييه درعي، لتولّي مناصب وزارية عقب إدانته بجرائم تهرُّب ضريبيّ وهو ما خلق أزمة يمكن أن تفضي في النهاية إلى انهيار الائتلاف الحكومي الحالي، والمثير للضحك أنَّ عدداً كبيراً من السياسيين الصهاينة يملكون سجّلاً إجرامياً لجرائم لا بحقّ الشعب الفلسطيني فحسب (وهي التي لا ينظر القضاء الصهيوني لها بوصفها جرائم)، بل وجّه لهم الكثير من تهم الفساد واستغلال مناصبهم للمنفعة الشخصية، حتى أنّ رئيس الحكومة نفسه يحاكَم منذ سنوات بتهمٍ عديدة، لكن ذلك لم يمنعه من تولي أرفع منصب سياسي في البلاد! فتاريخ الكيان يشهد أن الإجرام والفساد والعنصرية كانت كما لو أنها شروط أساسية للعب دور حيوي في الحياة السياسية، إلى تلك الدرجة التي رافقت فيها تهم الفساد والسجن عدداً من أبرز وجوه الحياة السياسية، مثل إيهود أولمرت وأرييل شارون وبنيامين نتنياهو وغيرهم الكثير، كموشيه كتساف رئيس الكيان منذ 2000 إلى أنْ استقال في 2007، وهو المدان بتهم تتعلق بالاغتصاب والتحرش وإساءة استغلال صلاحياته وقضايا تتعلق بالميزانية.

مرحلة مفصلية

مع أنّ المؤشرات على حجم الانقسام الداخلي لا تعدّ ولا تحصى إلا أنّ تصريحات بعض السياسيين الصهاينة في الأسابيع الأخيرة كانت دلائل كافية لا على حجم الانقسام فحسب، بل على الآثار الكبرى التي تترتّب عليه، فصرّح الرئيس إسحاق هرتسوغ، يوم الأحد 22 كانون الثاني وقال: «نحن في خضمّ خلاف عميق يمزّق أواصر أمّتنا» وتعهّد بأنْ يبذل جهده في تخفيف حدة الصراع السياسي الدائر في البلاد، أما يائير لابيد أحد زعماء المعارضة، فهاجم محاولة الحكومة الالتفاف على قرارات المحكمة العليا، محذّراً من «أزمة دستورية عميقة» وهدّد بأنَّ ممارسات الحكومة يمكن أنْ تفقدها شرعيَّتها. وكذلك الأمر بالنسبة لوزير الدفاع السابق بيني غانتس الذي اعتبر أنّ سياسات الحكومة الحالية سوف تقود إلى حرب أهلية، ودعا «الإسرائيليين» للخروج إلى الشوارع والاحتجاج و«زلزلة الدولة» حسب تعبيره. لكن أبرز هذه المواقف كانت تلك التي أعلن عنها رئيس الحكومة الأسبق إيهود باراك في مقال نشرته صحيفة يديعوت أحرونوت، إذ قال فيه: «إن الخلاف القائم مع حكومة بنيامين نتنياهو يصل لمرحلة خوض القتال، وهذا إنذار حقيقي، لأن الخطر محدق ووشيك فعلاً بالدولة، وانهيار نظامها السياسي، وستبقى الأشياء السيئة تستمر في الحدوث عندما يلتزم الإسرائيليون بالصمت، ما يستدعي منهم فتح أعينهم، وأنْ يسألوا أنفسهم: أين يقفون في هذا النضال. وأنْ يتلقّوا الإجابة الحقيقية، حتى لو كانت مؤلمة، وبقلبٍ مثقَل». وقال إنّ هذه المعركة ستكون «أهم معركة في حياتنا»، ويجب خوضها رغم الاضطرابات التي يمكن أن ترافقها.

التحركات السياسية وما يرافقها من تصريحات بالإضافة إلى التظاهرات الحاشدة - التي فاقت 100 ألف متظاهر حسب وسائل الإعلام - ليست حدثاً اعتيادياً عابراً، ولا يمكن النظر إليها بوصفها أزمة سياسية مؤقتة بل هي في الواقع محصّلة لأزمة عميقة تراكمت فيها المشكلات منذ سنوات، ووصلت فيها القوى السياسية الأساسية إلى طريق مسدود، ولم يعد بإمكانها الوصول إلى توافقات ضمن «الإطار الديمقراطي» الذي أدّت أدوارها ضمن حدوده سابقاً. ولم تعد برامج هذه القوى قادرة على إيجاد أيّ حلّ للمشكلات الكبرى الموضوعة على الطاولة. لا بل إنّ الأزمة السياسية الحادة في الكيان لا يمكن فصلها عن أزمة عامة لا تقلّ حدّةً في المعسكر الرأسمالي الغربي وواشنطن تحديداً نظراً لارتباط الكيان تاريخياً بهذا المركز الذي تعامل معه دائماً كامتداد له في منطقة ذات أهمية استراتيجية عالية.

الخطر الذي بات «يهدد الدولة» حسب تعبيرات الصهاينة أنفسهم خطرٌ حقيقي يعصف بكل القوى الغربية، ولا يُستبعَد أنْ يكون انهيارُ الكيان وتفكيكُه أحدَ الأضرار الجانبية المرافقة لهذا الإعصار، فالسلوك المسعور للقوى السياسية الصهيونية يدفع الأمور باتجاه مواجهة مفتوحة مع الشعب والمقاومة الفلسطينية داخل الأراضي المحتلة ومع كافة الشعوب في الإقليم في الوقت الذي يعقّد ميزان القوى الجديد المسألةَ بالنسبة للكيان الذي يجد نفسه وحده في الميدان، بعد أن خاض كلَّ حروبه منذ 1948 وهو يتلقّى كل أشكال الدعم الذي ضمن له موقعاً متقدماً في المنطقة، أما اليوم فالمعارك لن تكون كتلك التي اعتادها.

آخر تعديل على الجمعة, 27 كانون2/يناير 2023 12:53