مقاومة الضفة تتصاعد وتتوسّع باحتضانٍ شعبي عارم
شهدت الضفة الغربية والقدس المحتلة تنامياً واتساعاً في أشكال العمل المقاوم للاحتلال. وفي شهر تشرين الأول (أكتوبر) الفائت لوحده، قفزت أعمال المقاومة إلى (1999) عملاً (بكافة أشكالها من إطلاق النار والدهس والطعن حتى إلقاء الحجارة والمفرقعات)، متجاوزةً أكثر من ضعفي عددها المسجل في أيلول السابق (833)، كما تضاعفت عمليات إطلاق النار لتصل إلى 144 عملية مقارنة بأعلى رقم شهري سابق هذا العام (وهو 76 في نيسان). وخلال 10 أشهر الماضية قَتلت المقاومة 24 «إسرائيلياً» على الأقل (بين جندي ومستوطن) وجرحت 413 آخرين (في حصيلة هي الأعلى منذ «انتفاضة السكاكين» عام 2015) كردّ على اشتداد دموية الاحتلال الذي قتل 143 شهيداً وجرح 7672 فلسطينياً منذ بداية العام. كذلك تميّزت المقاومة بالاتساع الجغرافي، فمع تمركزها اللافت في نابلس وجنين والقدس، أخذت تمتد جنوباً أيضاً إلى الخليل، فضلاً عن تطوّرها نوعياً ونجاحها بإفشال احتياطات العدو الأمنية، كما اتضح من عمليَّتَي عُديّ التميمي اللتين نفّذهما بفاصل 12 يومياً من المطاردة الفاشلة. كذلك تبشّر مجموعات المقاومة الجديدة مثل «عرين الأسود»، بأساليبها الإبداعية ميدانياً واحتضانها المتزايد العمق والاتساع شعبياً، بالارتقاء بمهمّة «توحيد الساحات» وتجاوز الانقسامات «من تحت» إلى مستوى نوعي جديد يليق بالنصر والتحرير.
وفقاً لمركز المعلومات الفلسطيني «مُعطى»، جرى على مدى الأشهر العشرة الماضية (منذ بداية العام الجاري 2022 وحتى نهاية تشرين الأول/أكتوبر) ارتفاع ملحوظ في أعمال المقاومة بالضفة الغربية، حيث بلغ مجموعها بكافة أشكالها الميدانية المتنوعة أكثر من 10 آلاف عمل مقاوم بينها: 632 عملية إطلاق نار، و33 عملية طعن أو محاولة طعن، و13 عملية دهس أو محاولة دهس، و151 عملية زرع أو إلقاء عبوة ناسفة، و99 عملية تحطيم مركبات ومعدات عسكرية، و61 عملية حرق لمنشآت وآليات وأماكن عسكرية، 3213 عملية إلقاء حجارة، 304 عمليات إلقاء زجاجة حارقة، 94 إلقاء مفرقعات، وإسقاط طائرتي درون، و19 إرباكاً ليلياً، إضافة إلى 1146 مقاومة لاعتداءات المستوطنين.
وفي دليل على تركُّز وتصاعد المقاومة المسلَّحة داخل الضفة الغربية في محافظتي نابلس وجنين، بلغت عمليات إطلاق النار على أهداف العدو الشهر الماضي 65 في نابلس و40 في جنين (من أصل 144 إطلاق نار في الضفة عموماً)، مما يدلّ على عمل مسلح ومنظم، تصدّرت المشهد فيه مجموعةُ «عرين الأسود» التي امتلكت زمام المبادرة وأربكت قوات الاحتلال، وكشفت عن فجوات في منظومته الأمنية.
ومن أبرز العمليات المسلحة التي نفّذتها المقاومة في نابلس، عملية إطلاق النار البطولية قرب مستوطنة «شافي شمرون» شمال غرب نابلس التي أصيب فيها جندي «إسرائيلي» وأدت إلى مصرعه متأثراً بجراحه بعد عدة أيام.
عمليتا التميمي وتصاعد الإسناد الشعبي الإبداعي
في القدس المحتلة، غدا الشهيد عدي التميمي (22 عاماً) من مخيم شعفاط، رمزاً للمقاومة والبطولة، بعد تنفيذه عملية إطلاق نار من «مسافة صفر» استهدفت جنود الاحتلال في 8/ 10/2022 أسفرت عن مقتل مجنّدة وإصابة جنديّين آخرين عند حاجز شعفاط بالقدس المحتلة، وانسحب التميمي بسلام من مكان العملية، وأعقب العملية استنفارٌ كبير في منظومة الاحتلال الأمنية لمطاردة المنفذ، واجهها أهالي شعفاط بمزيد من الالتفاف حول المقاوم البطل بدءاً من تعسير مهمة البحث عنه عبر إحراق كاميرات المراقبة، مروراً بقيام الشباب بحلق رؤوسهم (كون منفّذ العملية كان حليق الرأس)، وتكثيف ذكر اسمه عبر الرسائل والمكالمات لتضليل المخابرات «الإسرائيلية»، وليس انتهاء بدعم عائلته والحضور معها بشكل دائم. وقد استمرّت مطاردة التميمي 12 يوماً، قبل أنْ يظهر مرّة أخرى لينفذ عملية إطلاق نار استهدفت جنود الاحتلال المتواجدين في محيط مستعمرة «معالي أدوميم» بالقدس المحتلة، أسفرت عن إصابة جندي «إسرائيلي»، واستشهاد التميمي برصاص الاحتلال.
الخسائر البشرية أكثر ما يوجع الاحتلال
جاء الحديث عن عدد قتلى الكيان الصهيوني هذا العام، ضمن تقرير أصدره حديثاً جهاز الأمن العام «الشاباك» حول أعداد القتلى خلال السنوات الخمس الأخيرة، والتي تظهر أنها الأعلى بعد العام 2015.
فبلغ عدد قتلى الاحتلال 24 على الأقل خلال 10 أشهر من العام الجاري 2022، ولمّا ينته العام بعد، مما يشير إلى احتمال أنْ يتجاوز العدد مع نهاية العام حصيلة عام انتفاضة السكاكين 2015 عندما قتل 29 محتلاً.
عملية «كريات أربع» وزحف المقاومة إلى الخليل وأبعد
مساء السبت الماضي، قُتِلَ مستوطن في عملية إطلاق نار نفّذها الشاب أحمد كامل الجعبري، وأصيب فيها 5 مستوطنين بينهم عوفر أوهانا، الذي يروي شهود فلسطينيون بأنه كان مستوطناً عدوانياً ضالعاً بالتسبب بإزهاق أرواح عدد من الفلسطينيين واعتقالهم، وذلك بمستوطنة «كريات أربع» المقامة على أراضي الفلسطينيين المحتلة بالخليل.
في تعليق له لقناة «المنار»، قال متابع الشؤون «الإسرائيلية» والمحلّل عصمت منصور: «إنّ أكثر ما يوجع «الإسرائيليين» هي الخسائر البشرية، وهي ما يجعل الرأي العام يضغط باتجاه مراجعة ما تقوم به الحكومات أمنياً في مناطق الضفة الغربية وطرح الأسئلة عن جدوى ما يجري في الضفة الغربية من عمليات قمع وانتهاكات». وتابع منصور «هذه الخسائر لم نشهدها إلا بالحروب والمواجهة المباشرة التي كانت تحدث في السابق خلال العدوان على القطاع أو حروب مع حزب الله، وهو ما يطرح التساؤل حول الفشل الأمني في عدم القدرة على وقف العمليات الفردية التي يقوم بها المقاومون في الضفة الغربية، والتي تستهدف المستوطنين والجنود على الحواجز».
ووفقاً للمعلومات كان الاحتلال ينشر 13–14 كتيبة قتالية على خطوط التماس قبل تصاعد عمليات المقاومة، وبعدها رفع العدد إلى 26 كتيبة عدا عن سرايا ما يسمى «حرس الحدود» والوحدات الأخرى. ويدرك الاحتلال أنّ مقاومة الخليل تشكل حالة إلهام لباقي المحافظات وتزيد من مخاوف الاحتلال.
أكثر من «عرين»...
في 27 أكتوبر الماضي أشارت قناة «كان» التابعة للاحتلال، بأنّ الحملة التي قام بها الجيش «الإسرائيلي» في قرية جبع بقضاء جنين شمال الضفة الغربية في 25 من الشهر كانت تهدف لإحباط مجموعة جديدة للمقاومة بدأت تتأسّس هناك.
وأضافت القناة، أنّ المجموعة الجديدة كبيرة ومهمّة وتعمل على الطريق الواصل بين نابلس وجنين. وبحسب القناة فإنّ المجموعة الجديدة التي أطلق عليها اسم «كتيبة جبع» تهدف لضمّ عشرات المقاومين المسلّحين، بما يشبه كتيبتي جنين ونابلس التابعتين للجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي. وأشارت القناة، إلى أنه بالتزامن مع هجوم الاحتلال ضد «عرين الأسود» في نابلس، فإنّ فصائل المقاومة تمضي بخطوة للأمام لتأسيس كتيبة جديدة في شمال الضفة.
الارتقاء بوحدة الساحات «من تحت»
على مستوى الوعي السياسي للشعب الفلسطيني المرافق لتطور إبداعات مقاومته العسكرية والميدانية، من اللافت أنّ الأشكال الجديدة لمجموعات المقاومة المسلحة، مثل «عرين الأسود» تقدّم نموذجاً ناجحاً في تجاوز الانقسامات الفصائلية، حتى أنّ تركيبتها وفق المعلومات والإشارات المتوافرة، يبدو أنّها تضم مقاتلين إما لا ينتمون إلى فصائل بعينها، أو أنهم ينتمون بالفعل حالياً أو سابقاً لفصائل متنوعة، وبعضهم أسرى سابقون وتنقّلوا بين أكثر من فصيل من المخضرمين بالخبرات القتالية والتخطيط للعمليات. وحتى في خطاباتها الإعلامية وبياناتها يمكن ملاحظة انعكاس التنوّع الفلسطيني، فقد يظنّ المرء في بعض الأسطر أنه يقرأ بياناً لحماس أو للجهاد الإسلامي، ليسترعي انتباهه في سطور لاحقة اقتباسات من أشعار محمود درويش وفي سطر لاحق من البيان نفسه يشعر المرء أنه أمام صياغات مألوفة من بيانات الفصائل اليسارية وهلم جراً... ومن الأحداث الطريفة المبشّرة أيضاً التي حدثت خلال الأيام الماضية وتدلّ على قدرة الموجة الصاعدة للمقاومة على غسل وتنظيف الساحة من مشكلات وتناقضات ثانوية سلبية في أوساط الشعب الفلسطيني؛ بادرت عائلة العويوي (أبو عيشة) في الخليل بتقديم تعازيها بالشهيد محمد الجعبري بعد عمليته البطولية، فتجاوزت عائلتا العويوي والجعبري بذلك خلافاً عائلياً وعشائرياً وصل إلى التقاتل بالرصاص، لتستطيع القضية الواحدة أن تلمّ الشمل وتوحّد القوى وتوجّه الرصاص إلى صدر العدو الواحد حيث مستقرّه الصحيح. وهكذا فإنّ هذه النماذج الإبداعية الشعبية الجديدة للعمل الفلسطيني المقاوم مرشّحة أكثر فأكثر لمزيد من توحيد وتلاحم الشعب الفلسطيني من القواعد «من تحت»، كما يجدر بالذكر انخراط عناصر من قوى الأمن الفلسطيني بمقاومة الاحتلال وتقديمهم لشهداء أيضاً مما يدل على فشل وإحراج كبير وشجب شعبي متزايد لنهج «التنسيق الأمني» المشؤوم مع العدو. وربما تفرز الساحة الفلسطينية قيادات سياسية جديدة ذات كفاءة ومسؤولية للتصدّي للمهمّات التاريخية الملحّة والناضجة للتحرر الوطني والانتصار.