ما الذي يعنيه تحوّل تركيا إلى خزان غاز عالمي؟

ما الذي يعنيه تحوّل تركيا إلى خزان غاز عالمي؟

شكّل الإعلان الروسي عن إمكانية تحوّل تركيا إلى مركز عالمي لتوزيع الغاز صدّمة لدى البعض، لكن الحماس الشديد الذي ردّت فيه أنقرة على هذا الاقتراح فرض على الجميع التعامل مع المسألة بوصفها إمكانية واقعية حقاً، ورغم أن مشروعاً كهذا له آثار اقتصادية وتجارية واسعة لكن جانبه الأكثر أهمية إنما يكمن في نتائجه اللاحقة على الخريطة الجيوسياسية العالمية.

قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أسبوع الطاقة الروسي إن: روسيا يمكن أن تضخ كميات الغاز التي خسرتها أوروبا جراء تضرر أنابيب السيل الشمالي إلى الدول الأوروبية عبر تركيا من خلال إنشاء «مركز غاز» هناك. معتبراً أن هذا المقترح يتمتع بجدوى اقتصادية ومستوى أمان عالٍ. وأضاف الرئيس الروسي أن تركيا أثبتت أنها الطريق الأكثر موثوقية لتسليم الغاز اليوم، حتى إلى أوروبا. رد الفعل الإيجابي من الجانب التركي وصل حد تكليف الرئيس رجب طيب أردوغان وزير الطاقة فاتح دونماز بالعمل على إنشاء مركز لتخزين الغاز الطبيعي وبدء المشاورات والدراسات اللازمة لإنجاز المشروع. السرعة التي تتحرك فيها الدولتان تشير دون شك إلى أن الموضوع كان قيد البحث منذ مدة لكن الظروف لم تكن ملائمة لإعلان النوايا بعد وهو ما تغيّر بعد تفجير خط السيل الشمالي الذي اتهمت موسكو «الأنغلوسكسون» بالوقوف وراءه.

تفجير خط أنابيب السيل الشمالي وردود الفعل الأوروبية عليها كانت حدثاً كافياً لفهم أنّ الأوروبيين عاجزون بشكّل جدّي عن الدفاع عن مصالحهم الوطنية، بل إنهم وعلى الرغم من أن مراكز استخباراتهم تعلم من يقف وراء التفجير لكنهم أعلنوا أن كشف المذنب يمكن أن يشكّل ضرراً على أمنهم الوطني! ما يعني أنهم غير مستعدين لاتخاذ إجراءات ضد المذنب الحقيقي. كل هذا يعني أن التوجّه الروسي-الألماني السابق القائم على توسيع البنية التحتية لنقل الغاز الروسي إلى ألمانيا ومنها عبر شبكة أنابيب إلى أوروبا بات محفوفاً بالمخاطر ولا يمكن لروسيا أن تراهن على شركاء لا يتمتعون بالحد الأدنى الضروري لاستقلال قرارهم السياسي. ومن هنا رأت موسكو في أنقرة شريكاً يتمتع بدرجات استقلال أعلى وقادراً على الإيفاء بأي التزامات لاحقة.

التقارب الروسي التركي في هذه المسألة له آثار ملحوظة، لكن المسألة أكثر اتساعاً من مجرد شبكة أنابيب وأجور مرور الغاز عبر الأراضي التركية.

تركيا وأزمتها المزمنة

تعاني تركيا من ضعف شديد في موارد الطاقة، إذ إنها تستورد 71% من حاجاتها من موارد الطاقة المتنوعة، ولكنها تستورد 99% من احتياجها من الغاز الطبيعي، هذا الظرف رفع بند الطاقة في الميزانية التركية بشكلٍ كبير، إذا تنفق تركيا حوالي 40 مليار دولار سنوياً على استيراد الطاقة ما يعد أحد أكبر مسببات العجز في الميزان التجاري التركي، وهو ما شكّل الحافز للسلوك المحموم للتأمين حصة من الغاز المكتشف في المتوسط. وعلى الرغم من الاكتشافات التركية الواعدة في البحر الأسود، والتي تقدر بـ 540 مليار متر مكعب، إلا أن المشكلة تبقى قائمة، فتقول التقديرات إن أقصى طاقة إنتاجية لحقول البحر الأسود قادرة على تأمين 30% من الاحتياجات المحلية، ما يعني فرصة لخفض عجز الميزانية لكنه يبقى غير كافٍ بالنسبة لتركيا التي ترى فقرها بالوقود عقبة حقيقية أمام إمكانية تأمين إطلالة دولية ودور أكثر محورية على المسرح العالمي.

تركيا مركزاً للغاز

يعتبر موقع تركيا ميزة استراتيجية حقيقية، فهي صلة وصل فعلية ومجازية بين الشرق والغرب، وعلى هذا الأساس ترتبط بشبكة واسعة من الأنابيب التي تؤمن احتياجات البلاد وتؤمن بعضاً من احتياجات البلدان المجاورة. ويتم نقل الغاز إلى تركيا من إيران عبر خط تبريز-أنقرة بطاقة ضخ تصل إلى 14 مليار متر مكعب سنوياً. وخط أنابيب الغاز عبر الأناضول الذي ينقل الغاز من أذربيجان إلى تركيا  سوف يصل في 2026 إلى طاقته القصوى المقدرة بـ 31 مليار متر مكعب وبالإضافة إلى خط آخر وهو خط غاز جنوب القوقاز «باكو-تبليسي-أرضروم» لنقل نحو 8.1 مليارات متر مكعب من الغاز الأذربيجاني إلى تركيا سنوياً. ومن روسيا هناك ثلاثة خطوط رئيسية يعبر اثنان منها البحر الأسود بينما يمر الخط الثالث من (أوكرانيا إلى رومانيا ثم بلغاريا ليدخل الأراضي التركية بعدها). تبلغ قدرة خط السيل التركي 31.5 مليار متر مكعب سنوياً بينما يستطيع خط «بلوستريم» نقل حوالي 16 مليار متر مكعب سنوياً.

نظرياً تستطيع تركيا إذا ما جرى استثمار البنية التحتية القائمة لنقل الغاز من روسيا وإيران وأذربيجان بالإضافة إلى الانتاج المحلي أن تؤمن أكثر من 115 مليار متر مكعب سنوياً وهو رقم كبير إذا ما جرى مقارنته بـ 155 مليار التي استهلكتها أوروبا من الغاز الروسي قبل الحرب الأوكرانية، هذا بالإضافة إلى أن تركيا تسعى بشكل معلن لزيادة هذه الكميات إما عبر توسيع الشبكات الحالية أو بناء شبكات جديدة من روسيا. لا شك أن هذا الطموح لا يمكن النظر إليه بوصفه منجزاً بالفعل، فحجم هذه الإمدادات مرتبط بعدد من العوامل وقدرة الدول الموردة على ضخ الحد الأقصى عبر هذه الأنابيب، فإيران مثلاً تتوقع ارتفاعاً في الطلب المحلي ما يؤثر على كميات التصدير وتتوقع أيضاً نمواً في طلب الدول العربية المجاورة ما يدفعها لتوزيع الحصص التصديرية بشكل مختلف عن الرغبة التركية. يضاف إلى هذه العقبات اللوجستية التشكيك بوجود طلب كافٍ في أوروبا بعد المحاولات المحمومة لاستبدال الغاز الروسي، وهناك قضية أساسية أخرى تتمثل بالمعوقات التي يستطيع الغرب وضعها بوجه الطموح التركي، ولكن كل هذا لا يمنعنا من رسم خطوط استنتاج رئيسية.

استنتاجات أولية

تركيا تتمتع بعلاقات وثيقة مع أهم الدول المنتجة للغاز مثل روسيا وإيران وأذربيجان وقطر، بغض النظر عن التحفظات الأوروبية حول الغاز الروسي إلا أن الطلب العالمي المتنامي على الغاز الطبيعي لا يمكن تعويضه خارج إطار المنتجين الأساسيين الذين يرتبطون ببعضهم بشكل متسارع عبر شبكة من الاستثمارات المشتركة والتي تلعب روسيا فيها دوراً كبيراً حتى خارج حدودها. ما يعني أننا أمام نشوء تعاون وتنسيق واسع بين عمالقة الإنتاج العالمي وحلقات التوزيع الوسيطة التي تمتلك بنية تحتية تسمح بالنقل والضخ والتخزين، بالإضافة إلى محطات معالجة وإسالة الغاز مثل تركيا التي تدرك أن تعميق علاقاتها مع روسيا من شأنه أن يفتح لها الآفاق المطلوبة باتجاه تثبيت إطلالتها الدولية بل إن الأحاديث الروسية الجديدة التي تعبر عن رغبة في إنشاء مركز لتوزيع الغاز في تركيا يحمل في باطنه إمكانية جديدة لتنظيم تسعير الغاز الذي سيصبح من صلاحيات أنقرة، فتركيا عازمة على شراء الغاز الروسي بالروبل ليتم تخزينه في خزانات ضخمة ثم إعادة بيعه إلى مشترين جدد بعملات أخرى كالدولار واليورو ولا يستبعد أن تتوسع سلة العملات هذه. الجانب الآخر من المسألة يرتبط بمسعى تركي لاستغلال وفرة الغاز الرخيص عبر تحويل البلاد إلى ورشة إنتاج كبيرة قادرة على تحقيق قفزات جدية وخصوصاً أن تركيا قادرة على تأمين التكنولوجيا اللازمة لعدد كبير من الصناعات.