احتجاجات المزارعين في هولندا… هل ستجوع أوروبا حقاً؟
احتجاجات المزارعين لن تكون حدثاً عابراً في أوروبا، هذا الاستنتاج يغيب عن المشهد الإعلامي حتى الآن، فعلى الرغم من الاهتمام الذي حظيت به المظاهرات في هولندا وغيرها من الدول الأوروبية إلا أن ملامح المشكلة تبدو بوضوح أكثر تعقيداً مما يجري تقديمه حتى الآن.
نظَّم مزارعو هولندا سلسلة من الاحتجاجات التي لم تتوقف بعد، ونجح المزارعون بقطع إمدادات الأغذية عن عدد من المتاجر بعد أن أغلقوا الطرق المؤدية إليها، حتى أنّ المحتجّين أزالوا بعض اللوحات الطرقية وأعلنوا مزارعهم دولاً مستقلة بعد تجاهل السلطات لمطالبهم.
ما الذي يجري؟
انتشرت مشاهد مصوّرة لدبابة أحضرها المزارعون بغرض لفت الانتباه في إحدى مظاهراتهم، فألقتْ الصور المتداولة الضوءَ على هذه الاحتجاجات، وخصوصاً بعد أنْ أطلقت الشرطة النار على مراهق كان يشارك فيها مع عائلته. بدأت القصة عندما أصدرت الحكومة خطة لتخفيض آثار الانبعاثات النيتروجينية الناتجة عن المواد المستخدمة في الزراعة وتربية المواشي، ووضع المسؤولون خريطة توضح نسب الانبعاثات التي يجب تخفيضها تماشياً مع مقترحات دافوس للمناخ، لكن المزارعين الذين باتت كلف الإنتاج المرتفعة تشكّل عقبةً جدية أمام استمرارهم، رأوا في الخطوات البيئية هذه ضربةً قاضية لمشاريعهم. فقد فرضت الحكومة تخفيض الانبعاثات بنسبٍ وصلت إلى 70% في بعض المناطق، مما سيؤدي إذا ما جرى تطبيقه إلى انخفاض بنسبة 30% من تعداد المواشي التي يملكها المزارعون على مستوى البلاد، ما يعني إفلاساً حتمياً للعدد الأكبر منهم. الحركات التي نظمّت هذه الاحتجاجات وضّحت أنَّ الحكومة لم تهتم بالمقترحات البيئة البديلة التي جرى تقديمها، كما أنها لا تظهر الإرادة في الحفاظ على هذا القطاع الإنتاجي الرئيسي في البلاد. هذه الآثار ستكون كارثية بالنسبة لعائلات عملت في الزراعة لأجيال، فبحسب المتحدث باسم جمعية المزارعين «LTO» ستلحق نتائج هذه السياسات أضراراً أوسع بكثير من قطاع الزراعة، إذ إنها ستؤثّر أيضاً على الجانب الاجتماعي والثقافي في كلّ الريف الهولندي الذي لن يبقى له مبرر في الوجود.
ما الذي يعنيه هذا بالنسبة لأوروبا؟
لا تنحصر الاحتجاجات في هولندا فحسب، بل شملت كلاً من إسبانيا وإيطاليا وبولندا والبرتغال ولن يمضيَ وقتٌ طويل قبل أنْ تتوسَّع القائمة لتشمل الدول الأوروبية الأخرى التي حافظت على قطاع زراعي متطور. لكن المشكلة في هولندا لن تكون محلّية التأثير، فالقطاع الزراعي في هذا البلد يُعَدُّ جزءاً أساسياً من مصادر الغذاء الأوروبي، فتجري تربية أعداد من الحيوانات في هولندا والتي تصل إلى 4 ملايين رأس من الأبقار، و13 مليون خنزير، و 104 مليون دجاجة في الوقت الذي يبلغ عدد سكان هولندا حوالي 17 مليون إنسان، يضاف إلى ذلك أنّ خُمسَ مساحة البلاد تغطيها المياه مما جعلها واحداً من المراكز الأوروبية الأساسية لإنتاج اللحوم والزراعة. فقد صدّرت هولندا 3.6 مليار كيلوغرام من اللحوم في عام 2021، لتكون المصدر الأول على مستوى الاتحاد الأوروبي، وتشكّل صادرات اللحوم هذه 60% من إجمالي أرباح هولندا.
تدل هذه المؤشرات أن الاضطرابات الحالية ستكون سبباً إضافياً لارتفاع أسعار الغذاء، لكن المشكلة الأكبر ستحدث إذا فرضت الحكومة خطتها وما سينتج عنها في القطاع الزراعي. وخصوصاً أن الأوضاع لا تعد أحسن في دول أوروبا الأخرى التي شهدت كما أشرنا هزّات حقيقية في قطاعات الإنتاج الزراعي. فإصرار الحكومات الأوروبية على التورط أكثر في مواجهة روسيا والآثار الخطيرة لارتفاعات أسعار الوقود والأسمدة والمواد الأولية الأخرى لن يمر دون ثمنٍ باهظ، سيجري تحميله كما يبدو للقطاعات الإنتاجية المتبقية في أوروبا ما يعني إعدام أي فرصة للاستقرار السياسي والاجتماعي، وقد بدأ بعض الهولنديون الغاضبين يستحضرون بعض الحوادث التاريخية التي جرت في البلاد حين تجمّع العامة في ظروف سياسية مضطربة وقتلوا حكامهم «الأخوان دي ويت» بشكلٍ وحشي وعلقوهم كالحيوانات بعد تشويه جثثهم في ساحة عامة. فيرى البعض أن استحضار هذه الحادثة يمكن أن يكون تنبيهاً جيداً للحكومة إلى ما يستطيع المزارعون الغاضبون فعله!