استقالة جونسون ليست إلا البداية
قدّم رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون استقالته من قيادة حزب المحافظين على أن يبقى على رأس الحكومة حتى اختيار رئيس وزراء جديد. هذا التطور الذي يرى فيه البعض محطة نهائية بعد عدد من الفضائح المتعاقبة ما هو في الحقيقة إلا بداية لمستوى جديد ونوعي من الأزمة السياسية في المملكة. فما هي حيثيات ما يجري؟ وكيف يمكن أن تتطور الأمور؟
ما يظهر في الواجهة
تفيض الصحف العالمية بأنباء هذه الاستقالة وتحاول معظم وسائل الإعلام تقديمها بشكل مبسَّط إلى درجة التسطيح، فبحسب الرواية الرسمية: لاحقت جونسون مجموعة من الفضائح التي أضرّت بسمعته السياسية مما أفقده عدداً كبيراً من مناصريه وداعميه. البداية كانت ما عرف باسم «بارتي غيت» حيث وجهت اتهامات له باستضافة 16 حفلة في مبنى رئاسة الحكومة ومقر إقامته في الوقت الذي كانت الحكومة تفرض سياسة حظر صحي شامل وإغلاقات وإجراءات تباعد، وبعد إنكار جونسون لإقامة هذه الحفلات جرى تسريب صور من داخلها ويظهر فيها رئيس الوزراء بين الحضور وهو يقضي وقتاً ممتعاً. استمرت هذه القضية بالتفاعل إلى جانب قضايا أخرى تخصُّه مع بعض أعضاء الحكومة حتى ظهرت قضية أخلاقية واتهامات بالتحرُّش ضد أحد أعضاء حزب المحافظين والذي عيَّنه جونسون في منصب رقابيّ مهمّ، وذلك على الرغم من معرفته بالقضايا المرفوعة ضدّه، كما تبين لاحقاً، وما إن خرج جونسون للاعتذار عن تعيين كريس بينشر في هذا المنصب الحساس حتى بدأت سلسلة من الاستقالات بدءاً من وزير الصحة والمالية حتى شملت أكثر من 60 استقالة لمسؤولين حكوميين ووزراء مما دفع جونسون للاستقالة بعد محاولات يائسة للمقاومة.
ما الذي يجري خلف الستارة؟
مما لا شك فيه أنّ هذه الفضائح من شأنها أن تؤثّر على أمزجة وقرارات الناس العاديين لكن الحسابات السياسية مختلفة جداً، وتشكل هذه القضايا مادة جيدة للإعلام بوصفها ذرائع لما يجري وستاراً تختفي خلفه الصراعاتُ السياسية الحقيقية، لا بل إنّ مواعيد نشر هذه القضايا أمام الرأي العام بهذه الطريقة لم يكن إلا خطوة ضمن سلسلة مرتَّبة من الخطوات للوصول إلى هذا الهدف المرحلي، حتى أنّ بعض منافسي جونسون والمرشَّحين لخلافته حجزوا مواقع إلكترونية خاصة لحملتهم الانتخابية قبل سلسلة الاستقالات هذه كنوعٍ من التحضيرات الاستباقية للمرحلة القادمة.
يعد بوريس جونسون ممثلاً لتيار سياسي لا يمكن احتواؤه ضمن حدود حزب المحافظين، فالتوجه العام لرئيس الوزراء كان عابراً للتقسيمات السياسة التقليدية في البلاد حتى أنه لا يعبّر عن مزاج جميع المحافظين، ليشكل ظاهرة تشبه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وعلى الرغم من الضجيج المصاحب لاسم جونسون إلا أنه لم يكن أول من سار في هذا الاتجاه ولن يكون آخرهم. فالاستقالات التي تُعَدّ سابقةً في تاريخ بريطانيا جاءت بوصفها تطوّراً نوعيّاً في الانقسام السياسي الحاصل منذ سنوات والذي تمّ رصدُه بشكل واضح مع بدء الحديث عن بريكست (خطة الخروج من الاتحاد الأوروبي) منذ فترة رئاسة تريزا ماي للحكومة السابقة، إلا أنّ هذا الانقسام بات يظهر في الكثير من القضايا التي لم يعد بالإمكان احتواؤها ضمن الأطر السياسية والحكومية التقليدية، وسرَّعت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا والتداعيات الاقتصادية للعقوبات الغربية التي رافقتاها من حدّة هذه الانقسامات. فالصدام السياسي الكبير والذي دفع 60 مسؤولاً حكوميّاً للاستقالة لا يحدث كردِّ فعلٍ على إقامة حفلات حضرها بالتأكيد بعض هؤلاء، بل المشكلة اليوم تكمن في أنّ المملكة المتحدة تواجه أكبر أزمة اقتصادية منذ 40 عاماً، والتي يردُّها البعضُ إلى الخروج المتسرّع من الاتحاد الأوروبي وما رافقه من أزمة في العمالة ونقص في الاستثمار وغيرها من التداعيات السياسية الداخلية التي باتت تهدّد وحدة المملكة وتحديداً بعد إعادة وضع توحيد إيرلندا على طاولة بحث قوى سياسية إيرلندية ذات نفوذ سياسي واسع. إنّ الموقف من أوكرانيا والتورط الكبير لبريطانيا في هذه الحرب والفاتورة الضخمة لتبعات هذا التورط وكيفية تأمين الموارد اللازمة له... كلّها باتت مواضيع جدّية للانقسام السياسي وعوامل ضغط كبرى على الوضع الداخلي المضطرب. وتحميل تيار جونسون مسؤولية التدهور الكارثي الجاري يبدو أمراً مغرياً لبعض السياسيين البريطانيين، ويرى بعضهم الآخر فيما يجري فرصةً لتقديم مشروع سياسي مختلف يفكّك كلّ خطوات جونسون.
ما هي خيارات بريطانيا اليوم؟
بالمعنى الدستوري والسياسي، أمام بريطانيا جملة من الاحتمالات، فاختيار رئيس وزراء جديد لن يكون مسألة سهلة على الإطلاق. إذ يتعين على حزب المحافظين انتخاب رئيس جديد للحزب وهو ما يعني منافسة شرسة غير ودّية بدأت ملامحها بالظهور، وتحتاج هذه العملية إلى شهرين تقريباً حتى إنجازها مما يعني إعطاء جونسون وقتاً كافياً للمناورة، فقد يتّجه مجلس العموم لإجراءات سحب الثقة ولكن جونسون قادر على تقديم طلب إلى الملكة بالموافقة على حلّ المجلس تمهيداً لانتخابات مبكرة.
لكلٍّ من هذه الاحتمالات المطروحة سلسلةٌ من الاحتمالات الفرعية، ورغم اختلافاتها الإ أنها تشترك جميعها بدرجة عالية من الخطورة كونها قادرة على توليد هزّات سياسية كبرى في البلاد ستكون تأثيراتها مضاعفة في ظلّ الظرف الدولي العاصف. ويبدو أنّ أخطر السيناريوهات المطروحة اليوم هو ذلك الذي يقوم على «اجتثاث الجونسونية» كما تسمّيه الصحافة البريطانية، لما سيولّده هذا التوجه من صدامٍ وتناقضٍ شديد. ففي مقال نشرته الغارديان بعنوان: «كل شيء ملوّث بأكاذيب جونسون يجب التراجع عنه، بما في ذلك خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بركسيت)» والذي يذهب كاتبه للقول بأنّ رئيس الوزراء وبعد الحكم عليه ككاذب من قبل أتباعه ومؤيدي خطة الخروج من الاتحاد الأوروبي، سيدفع البريطانيين لإعادة التفكير في سياساته، فيقول الكاتب «من المؤكد أن أي دولة ستفقد الثقة في المنتج الذي اشترته عندما تكتشف أن الرجل الذي باعه لها محتال». لا يعبر هذا عن فكرة في مقال صحفي بالطبع! بل يعبر عن ملامح برنامج لقوى معارضة تريد العودة إلى المربع السابق. بعيداً عن تقييم توجّه «الجونسونيين» ومدى تعبيره عن مصالح البريطانيين وهو ما أثبتت الوقائع أنه لم يكن إلا معبراً عن مصالح نخب سياسية محددة.
يُطرَح اليوم الصراع بين التيّارات المتخاصمة، وفي ظل تعقد الأزمة المتزايد، تندفع البلاد إلى أزمة حكم مكتملة الأركان كانت بريطانيا تجاوزتها حتى اللحظة بصعوبة بالغة. أزمة الحكم هذه ستكون كفيلة بشل حركة البلاد في واحدة من أكثر لحظاتها التاريخية حساسية. ودخول بريطانيا في هذا النفق المظلم لا يعد مشكلة بريطانية خاصة، وإنما سيكون تعبيراً عن واقع أوروبي مأزوم وشديد التعقيد.